"خاص - إيست نيوز"
هازار يتيم
في بلدٍ يعاني منذ سنوات من أزمة اقتصادية خانقة، يُعيد إصدار ورقة نقدية جديدة من فئة 5 ملايين ليرة لبنانية طرح الأسئلة الكبرى حول مستقبل النقد الوطني، وجدوى السياسات المالية المتبعة. فهل هذه الخطوة مجرد إجراء تقني لتسهيل التداول؟ أم أنها مؤشر إضافي على تعميق الانهيار النقدي والاقتصادي في لبنان؟
هذا ما ناقشته لجنة المال والموازنة النيابية، حيث أعلن رئيسها النائب إبراهيم كنعان بعد جلسة عُقدت مؤخرًا، أن اللجنة "عدّلت قانون الإجازة لمصرف لبنان بإصدار فئات ورقية جديدة، لا سيما فئة الـ 5 ملايين ليرة، بما يتوافق مع ملاحظات رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون.".
لكن خلف هذا القرار، تختبئ تساؤلات عميقة تتعلق بسيادة العملة الوطنية، ومستقبل التضخم، وثقة الناس بما تبقى من قيمة لليرة اللبنانية.
لماذا الـ 5 ملايين؟
في هذا السياق، يشير المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية، المحامي الدكتور باسكال ضاهر في حديث لموقع "إيست نيوز"، إلى أن إصدار ورقة نقدية بقيمة 5 ملايين ليرة ليس مجرد إجراء تقني، بل يحمل أبعاداً نقدية واقتصادية ونفسية عميقة؛ وهي ليست علاج للتضخم بل انعكاس له؛ علما ان الحل الحقيقي يكمن في الإصلاح المالي والاقتصادي وتطبيق فعّال للقوانين وعدم التنكر لها، وضبط الكتلة النقدية، وإعادة الثقة بالقطاع المصرفي والدولة.
أولاً: البعد النقدي والاقتصادي
بحسب ضاهر، فإن لجوء مصرف لبنان إلى إصدار فئة نقدية جديدة مرتفعة القيمة يعود إلى عدم كفاية الأوراق النقدية المتداولة لتغطية حاجات السوق اليومية، ما يستدعي تسهيل التداول عبر فئات أعلى. لكن هذا الإجراء، برأيه، لا يُعالج جذور الأزمة، بل يتكيّف معها، تماماً كما حدث في تجارب دولية سابقة كزيمبابوي وفنزويلا، حيث تحولت عملية إصدار الفئات النقدية الكبيرة إلى حل تجميلي مؤقت يرافقه استمرار التدهور الاقتصادي،
أما تركيا فقد اعتمدت نهجاً مختلفاً قامت عام 2005 بشطب ستة أصفار من عملتها في إطار إصلاح نقدي شامل، ثم انتقلت إلى تعزيز اقتصادها ضمن رؤية متعددة الأبعاد - صناعية وزراعية وتجارية وسياحية وغيرها - الأمر الذي انعكس إيجاباً على عملتها لاحقاً.
*الإيجابيات: تسهيل وتقليل الكلفة
رغم التحذيرات، يوضح ضاهر أن هناك بعض الإيجابيات المرتبطة بإصدار فئة نقدية كبيرة، ومنها:
- تسهيل التداول اليومي: حيث يتم الاستغناء عن حمل كميات كبيرة من الأوراق النقدية، وتُختصر القيمة في ورقة واحدة.-
- خفض الكلفة اللوجستية: من حيث الطباعة والتخزين والنقل، ما يخفف الأعباء التشغيلية على مصرف لبنان.
- تخفيف الضغط على النظام المصرفي: إذ تُقلّل هذه الخطوة الحاجة للسحب المتكرر من المصارف.
السلبيات: مؤشرات خطر وتدهور نفسي واقتصادي
في المقابل، يشدد ضاهر على أن الإصدار الجديد يحمل 3 سلبيات رئيسية وخطيرة وهي:
-إشارة سلبية إلى فقدان السيطرة على التضخم: إذ يُفسّر الأمر من قبل المواطنين على أنه اعتراف رسمي بأن التضخم خرج عن السيطرة.
- تآكل الثقة بالعملة الوطنية: ما يدفع الناس نحو الدولرة أو تحويل أموالهم إلى أصول صلبة كالعقارات أو الذهب.
- تعميق "التضخم النفسي": وهو الأخطر، حيث يُعزّز شعور المواطن بأن "المليون ليرة لم تعد تساوي شيئاً"، مما يُسرّع وتيرة التدهور في القدرة الشرائية.
المخاطر الإضافية: تزوير وتثبيت واقع الأزمة
ترافق العملات ذات الفئات الكبيرة مخاطر تزوير أعلى، فضلاً عن أنها تكرّس واقع الأزمة بدل معالجته. كما أن تجارب دولية مشابهة، كفنزويلا وزيمبابوي، تظهر كيف يمكن لهذا النوع من الإجراءات أن يؤدي إلى سيناريوهات تضخم مفرط، وتفلت اقتصادي واجتماعي شامل بحسب ضاهر.
هل هي مرحلة انتقالية أم منزلق خطير؟
قد يرى البعض أن إصدار ورقة الـ5 ملايين هو مرحلة انتقالية ضرورية لتسهيل التعاملات، ولكن الواقع يُشير إلى أن مثل هذه الإجراءات، إن لم تُرفق بإصلاحات بنيوية حقيقية وتطبيق فعّال للقوانين القائمة، فإنها ستتحوّل إلى مؤشر إضافي على تفاقم الأزمة وانعدام الثقة.
وعليه، فإن الورقة النقدية الجديدة ليست مجرد وسيلة دفع، بل هي مرآة تعكس عمق الأزمة اللبنانية المالية والنقدية، وتُطرح في لحظة مفصلية تتطلب قرارات إصلاحية جريئة تتجاوز التكيّف مع الأزمة، نحو معالجتها من جذورها.