لم تكن زيارة مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان إلى دارة آل كرامي في "بقاعصفرين" مجرّد لقاء بروتوكولي، أو زيارة عابرة، بل محطة سياسية لافتة أعادت خلط الأوراق على الساحة السنّية، وفتحت الباب أمام قراءة جديدة لموازين القوى في الشمال ولبنان معًا. فالخطوة، بما حملته من رمزية وتوقيت، شكّلت مادة دسمة للنقاش في الصالونات السياسية التي بدأت تغلي، مع انطلاق المعركة الانتخابية باكرًا في الشمال، حيث تُطرح الأسماء وتُرسم اللوائح، وتنسج لائحة وتطير أخرى، فيما لا يزال شبح تأجيل الانتخابات قائمًا بفعل التعقيدات القائمة.
الحدث لم يكن في شكله فحسب، بل في مضمونه أيضًا. فخطاب النائب فيصل كرامي خلال اللقاء حمل رسائل غير معتادة، إذ تبنّى بوضوح التمسّك باتفاق الطائف وحصرية السلاح بيد الدولة، في انعطافة كبيرة عن خطابه السابق المقرّب من "حزب الله".
هذا التحوّل دفع مراقبين إلى اعتبار ما جرى بمثابة إعادة تموضع سياسي لكرامي، وربما "إعادة تسويقه" من قبل المملكة العربية السعودية، في ظل ما يبدو من تقارب متنامٍ بينه وبين الرياض في الأشهر الأخيرة. وفيما ربط البعض الزيارة بضوء أخضر سعودي، ذهب آخرون أبعد في التحليل معتبرين أن معظم الشخصيات التي حضرت لقاء "بقاعصفرين" قد تكون هي نفسها مرشّحي المملكة المقبلين في الانتخابات النيابية المقبلة، في مقاربة رآها متابعون مبالغًا فيها، نظرًا لأن السعودية لم تُسمّ أو تدعم أي مرشح أو لوائح في العام 2022 وستنتهج نفس النهج في الانتخابات النيابية القادمة.
ويشير بعض المراقبين لـ"نداء الوطن"إلى أن اهتمام المملكة بكرامي تحديدًا يعود إلى محاولاته السابقة نسج خيوط علاقة مع تركيا، ما يجعل الرياض ترى فيه فرصة لاستقطابه بعيدًا عن التحالفات السابقة مع سوريا الأسد و"حزب الله"، وتحويله إلى محور اعتدال سعودي في الشمال. كما أن المملكة تهدف من هذه الخطوة إلى خلق توازنات سنّية متعددة في المناطق، بعيدًا من حصرية المرجعية السنّية كما كان الوضع سابقًا، وإطلاق دينامية جديدة في الساحة السنيّة تعكس التنوع والاختيارات الحرة داخل المجتمع السنّي. مصادر سياسية سنّية تلفت إلى أن المملكة تعتمد حاليًا سياسة الانفتاح على جميع الشخصيات والتيارات من دون استثناء، لا سيما تلك التي لا تجاهرها بالخصومة، وتتعامل مع الجميع على مسافة واحدة، بعيدًا من نموذج "الزعيم الواحد" الذي طبع مرحلة الرئيسين رفيق وسعد الحريري. ووفق هذه المصادر، فإن كل ما يُروَّج عن تزكيات سعودية أو تبنّي أسماء بعينها يبقى في إطار التكهنات أو التمنيات التي لا تستند إلى وقائع فعلية. ورغم ذلك، فإن ديناميكية الشمال تبدو في ذروتها، مع طامحين للنيابة يتحركون باتجاه رجال الدين المقربين من المملكة، فيما يتابع آخرون التموضع الجديد لكرامي، في مشهد يعكس أن الخريطة السنيّة تتغيّر بسرعة. وما جرى في بقاعصفرين ليس تفصيلًا، بل بداية مرحلة سياسية جديدة تُرسم فيها التحالفات على أسس مختلفة، حيث المواقف الفعلية ستكون المعيار الحاسم لأي دعم أو نفوذ مستقبلي.