خاصّ - إيست نيوز
جوي ب. حداد -
لم يعد الانفلات الأمني في لبنان مشاهد مُتفرّقة يمكن احتواؤها، بل صار واقعًا يوميًّا يثقل كاهل المواطنين ويقضم ما تبقّى من ثقتهم بالمؤسّسات. وهو ما يتجلى بسرقة الكابلات الكهربائية والاتصالات التي تُغرق أحياءً كاملة في العتمة، إلى السطو المسلّح والسرقات المتنقلة، مروراً بشبكات المُخدّرات التي تتوسّع كالأخطبوط، وصولًا إلى المخاوف من تفلّت السلاح في المخيّمات وبعض الجزر الأمنية المتبقية، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام مشهد مقلق ينذر بانهيار شامل للأمن الاجتماعي.
مشاهد يومية تُنذر بالأسوأ
من طرابلس إلى الضاحية الجنوبية، ومن البقاع إلى صيدا، تتكرّر الحوادث بشكل يومي: كابلات تُنتزع وتباع خردة، محال تُقتحم في ساعات الليل، مواطنون يُسلبون بالقوّة، وشبكات لترويج المخدرات تتحدّى أجهزة الأمن. ومع كل حادثة جديدة، تتعمّق مشاعر الخوف والقلق، ويزداد شعور الناس بأنّهم متروكون لمصيرهم.
وفي الوقت نفسه، تنتشر عبر وسائل التواصل أخبار عن اختفاء نساء ورجال وفتيات، ما يزرع الذعر بين الناس ويعزّز روايات عن وجود عصابات خطف. غير أنّ قوى الأمن الداخلي نفت بشكل رسمي هذه المزاعم، مؤكدة أنّ معظم الحالات تعود إلى أسباب خاصة أو مرضية، مثل اضطرابات نفسية أو خلافات أسرية أو هروب طوعي. ومع ذلك، بقيت حالة القلق الشعبي قائمة، لأنّ النفي الرسمي وحده لا يكفي لإعادة الطمأنينة في بلد يعيش أصلاً على أعصاب متوترة.
اقتصاد منهار ودولة عاجزة
الأزمة الإقتصادية التي يمرّ بها لبنان ليست مجرد أزمة مالية، بل أزمة وجودية انعكست على كل القطاعات، بما فيها الأمن. انهيار الليرة أفقد رواتب عناصر القوى الأمنية قيمتها، ما دفع كثيرين منهم إلى البحث عن وظائف بديلة أو الهجرة. ضعف الموازنات التشغيلية جعل من الصعب تأمين المحروقات والآليات، فيما تراجعت الجهوزية اللوجستية إلى أدنى مُستوياتها.
هذا التراجع البنيوي خلق فراغاً أمنياً واسعاً استغلّته شبكات الجريمة المنظّمة، سواء في تجارة المُخدّرات أو في عمليات السرقة. ومع غياب سلطة ردع فعّالة، بات المواطن العادي يشعر أنّه في مواجهة مفتوحة مع الفوضى.
تفلّت سلاح المخيّمات: القلق الأكبر
إذا كان سرقة الكابلات أو السرقات الصغيرة تمثّل مصدر إزعاج دائم، فإنّ الحديث عن تفلّت السلاح في المخيّمات الفلسطينية يشكّل تهديداً مضاعفاً. فالمخيّمات التي تُعاني أصلًا من ظروف اجتماعية واقتصادية خانقة قد تتحوّل إلى بؤر تصعيد مُتجدّدة، حيث يُستخدم السلاح في نزاعات محلية أو يُستغل في عمليات خارجة عن القانون.
الخوف من تمدّد هذا السلاح إلى محيط المخيّمات ليس وهماً، بل واقع تدركه الأجهزة الأمنية نفسها. وإذا لم تُعالج هذه المسألة بتفاهمات واضحة وبرامج ضبط دقيقة، فإنّ شبح الانفجار يظلّ قائمًا ويهدّد ما تبقّى من الاستقرار الهشّ.
توجيه الإستراتيجية الأمنية المقبلة
المعلومات تشير إلى أنّ خطة الجيش وكل الجهود اللبنانية الرسمية ستتركّز في الشهرين المقبلين على إنهاء حصرية السلاح جنوبي الليطاني حصراً، على أن تواكب واشنطن ذلك بالضغط على إسرائيل للانسحاب من النقاط المحتلة وتسليمها للجيش، ليتم الانتقال بعدها لحصر السلاح شمالي الليطاني. هذه المُعطيات، إن صحت، تُظهر أنّ تعاملاً مرحلياً ومبرمجاً قد يُعتمد في معالجة ملفّ السلاح، لكنّ نجاحه مرهون بقدرة الدولة على تنفيذ التفاهمات وبتعاون إقليمي ودولي واضح.
المؤسّسات الأمنية: صمام الأمان الأخير
عنوان اختصار: القوات الأمنية صمام الأمان الوطني
على الرغم من الإنهيار المالي والضغوط الهائلة، ما زالت المؤسّسات العسكرية والأمنية تؤدي دورها كصمام أمان للبلد. فالجيش اللبناني ومُخابراته يواصلان ضبط الحدود وتفكيك شبكات التهريب، فيما تتابع قوى الأمن الداخلي، ولا سيّما شعبة المعلومات، مُلاحقة العصابات وكشف الجرائم المعقّدة. الأمن العام يحافظ على رقابته لحركة الدخول والخروج عبر المعابر والمرافئ، فيما يضطلع جهاز أمن الدولة بمُتابعة الملفات الحساسة المرتبطة بالجرائم الاقتصادية والأمنية، ولا يمكن إغفال دور الجمارك في ضبط الممنوعات والحدّ من التهريب.
ندعم هذه الجهود لأنّها، رغم محدودية الإمكانات، تبقى آخر خطوط الدفاع أمام الانهيار الكامل. دعم الأجهزة المالية واللوجستية ليس ترفًا بل شرط لبقاء المواطنين داخل مدنهم والاقتصاد في عمله الطبيعي.
انعكاسات الانفلات على المُجتمع
تأثير هذا الانفلات يتجاوز حدود الجرائم بحد ذاتها، ليطال البنية الاجتماعية والنفسية للمجتمع اللبناني. الخوف المتنامي يدفع الناس إلى الالتزام بمنازلهم بعد ساعات المساء، ويجعل التجار مترددين في فتح محالهم ليلًا. انتشار الإشاعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي يزيد الطين بِلّة، حيث تتحوّل أخبار غير مؤكّدة إلى موجات هلع جماعي، في غياب إعلام مسؤول يقدّم الحقائق بموضوعية.
النتيجة الأشد خطورة هي انهيار الثقة بالدولة. فالمواطن الذي لا يجد حماية من مؤسّساته، يميل إلى البحث عن بدائل: إمّا عبر شبكات الحماية المحلية، أو عبر حمل السلاح الفردي، ما يفتح الباب أمام فوضى أكبر.
المُعالجات المطلوبة
المعالجات المطلوبة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية واستراتيجية متكاملة:
1. تعزيز قُدرات القوى الأمنية مالياً ولوجستيًا، وتأمين مقوّمات العمل الأساسية لعناصرها.
2. تفعيل دور البلديات عبر مبادرات محلية في الإنارة والمُراقبة بالتعاون مع المُجتمع المدني.
3. خطة مُتكاملة لمُعالجة سلاح المخيّمات عبر تفاهمات داخلية ودعم دولي، تمنع تحوّله إلى مصدر تفجير دائم.
4. إجراءات قضائية سريعة وحاسمة بحقّ مروّجي المخدّرات واللصوص، بما يعيد ثقة الناس بالعدالة.
5. حملة إعلامية وتوعوية للحدّ من الإشاعات وتقديم المعلومة الدقيقة بدلًا من ترك الساحة للذعر والتهويل.
سؤال يترك أثراً
لبنان يقف اليوم على حافة أمنية خطيرة، حيث تتحوّل الجرائم الصغيرة والإشاعات اليومية إلى كرة نار تكبر وتتمدّد. وما كان ينقص هذا المشهد سوى تفلّت السلاح داخل المخيّمات ليزيد القلق الشعبي تعقيداً. الأمن لا يُبنى عبر بيانات نفي ولا عبر مُبادرات ظرفية، بل بخطة وطنية متكاملة تُعيد للدولة هيبتها، وللمواطن شعوره الطبيعي بالأمان.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل ستنتفض الدولة اليوم، أم تترك اللبنانيين يواجهون غداً وحدهم في غابة الفوضى؟