عاجل:

من "حفرة إلى مقبرة"... نزيف الحوادث "القاتلة" يكتب فصولا من مأساة اللبنانيين (خاص)

  • ١١٠

خاص- "إيست نيوز"

هازار يتيم

في لبنان، لم تعد حوادث السير مجرّد أرقام تُدرج في نشرات الأخبار أو تقارير موسمية عن السلامة المرورية، بل تحوّلت إلى مأساة يومية تُضاف إلى سلسلة الأزمات التي تثقل كاهل البلد. إنها نزيف مستمر يحصد أرواح الأبرياء، وسط صمت رسمي مخيف وتقصير واضح في المعالجة. فالطرقات لم تعد وسيلة للتنقل، بل باتت فخاخًا قاتلة، تنذر كل صباح بفاجعة جديدة: قتيل هنا، جريح هناك، وعائلات تُفجع بأحبائها في لحظة عابرة من الإهمال.

انهيار البنية التحتية وتردي السلامة على الطرق

في بلدٍ يتخبّط تحت وطأة انهيار اقتصادي غير مسبوق وتفكك في مؤسسات الدولة، لم يعد الخطر مقتصرًا على الفقر أو غياب الخدمات الأساسية، بل امتد ليطال سلامة المواطنين على الطرق. البنية التحتية باتت مهترئة، والطرقات محفّرة، تفتقر للإنارة والإشارات، وتغيب عنها أدنى شروط الأمان، فيما تتكرر الحوادث في الأماكن نفسها، دون أي محاولة جادة لمعالجة ما يُعرف بـ"النقاط السوداء" التي تحصد الأرواح المرة تلو الأخرى.

أرقام صادمة لحوادث السير

الإحصاءات الرسمية التي وفرها مكتب العلاقات العامة في قوى الامن الداخلي لـ "إيست نيوز" تعكس هذا الواقع الصادم. ففي عام 2023، سُجّل 1145 حادث سير أسفر عن 207 ضحايا و1422 جريحًا.أما في عام 2024، فقد ارتفع عدد الحوادث إلى 1214، وبلغ عدد اضحاياها 203 وزاد عدد الجرحى إلى 1457.

وحتى نهاية شهر آب من العام الجاري، 2025، ارتفع عدد الحوداث الى 1415، ومعها ارتفع ايضا عدد الضحايا الى ان بلغ 254 ضحية والجرحى الى 1699، ما يؤشر إلى تصاعد خطير في أعداد الضحايا، وسط غياب أي استراتيجية فعالة للحد من هذه الكارثة.

"اليازا" تحذر وتقترح

الدكتور زياد عقل، رئيس جمعية "اليازا"، وصف لـ"إيست نيوز" الوضع بأنه كارثي، مؤكداً أن لبنان شهد خلال شهر آب وحده 60 حالة وفاة على الطرقات، بزيادة تفوق 30% عن العام الماضي. وأوضح أن الجمعية أطلقت نداءً عاجلًا تضمن سلسلة من التوصيات، تم عرضها على السيدة الأولى نعمة عون، في محاولة للضغط على الجهات الرسمية للتحرّك.

من بين أبرز أسباب تفاقم الحوادث، بحسب عقل، توقف المعاينة الميكانيكية، ما سمح بسير سيارات غير صالحة، وغياب تام لتطبيق القانون، بحيث تمرّ مخالفات خطيرة مثل السرعة الزائدة أو القيادة عكس السير دون أي رادع. ويضيف أن تطبيق قانون السير اليوم يتم بشكل شكلي لا يتجاوز تحرير محاضر الاصطفاف الخاطئ، في حين أن البلاد بحاجة إلى قرار سياسي يستعيد هيبة الدولة على الطرق.

مسلم: السرعة والخلوي واسباب أخرى

من جهته، شدّد رئيس مكتب العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الامن الداخلي العميد جوزيف مسلم، عبر "إيست نيوز"، على أن السرعة الزائدة تشكّل السبب الرئيسي لمعظم الحوادث، لافتًا إلى أن الالتزام بالسرعة القانونية يقلّص بشكل كبير من حجم الأضرار. وأوضح أن الحوادث لا تتوقف، لكن حين يتحلّى السائق بالوعي، غالبًا ما تقتصر الأضرار على الخسائر المادية.

كما أشار إلى أسباب إضافية تؤدي إلى وقوع الحوادث، أبرزها استخدام الهاتف أثناء القيادة، التعب، النعاس، تناول الكحول، وتعاطي المخدرات، إلى جانب المشاكل الميكانيكية في المركبات وسوء حال الطرقات.

غياب الإنارة وصيانة الطرقات

وفي ما يتعلق بغياب الإنارة على الطرقات الدولية، خصوصًا في المناطق الجبلية وطريق الجنوب وأوتوستراد رياق-بعلبك، أكد العميد مسلم أهمية استخدام خطوط فسفورية وفواصل عاكسة للضوء كبديل فعال في ظل انقطاع الكهرباء، موضحًا أن وزارة الأشغال بالتعاون مع وزارة الطاقة تقوم ببعض أعمال الصيانة، لكن الغالبية العظمى من الطرقات بحاجة إلى معالجة جدية.

 وأكد أن خفض السرعة في الأماكن المظلمة أو تلك التي تحتوي على حفر ومطبات هو أمر ضروري لتفادي الحوادث.

الرقابة المرورية والغرامات غير الرادعة

أما في ما يتعلق بالرقابة المرورية، فأشار مسلم إلى أن قوى الأمن الداخلي تعتمد على الرادارات وتحرّر محاضر ضبط، خصوصًا في مخالفات السرعة، لكنه أقرّ بأن الغرامات المالية لم تعد تُشكّل رادعًا فعليًا، إذ إن قيمتها بالدولار تراجعت بشكل كبير رغم زيادتها بالأرقام. فعلى سبيل المثال، غرامة الوقوف الخاطئ ارتفعت من 50 ألف ليرة إلى 500 ألف، لكنها فعليًا انخفضت من نحو 33 دولارًا إلى حوالي 5 دولارات فقط، ما أدى إلى تراجع التأثير الردعي.

القيادة تحت تأثير الكحول والمخدرات

القيادة تحت تأثير الكحول والمخدرات تُعدّ أيضًا من الأسباب الرئيسية للحوادث. ودعا العميد مسلم السائقين إلى التحلي بالمسؤولية وتجنّب القيادة بعد الشرب أو التعاطي، مؤكدًا أن الجسم البشري له قدرة محدودة على التحمل، وتجاوزها يؤدي إلى فقدان السيطرة.

 وأضاف أن "تعاطي المخدرات يؤدي إلى تشوش في الرؤية والتفكير، انخفاض في التركيز، صعوبة في اتخاذ القرار، تدهور الذاكرة، والهلوسة، مما يُشكّل خطرًا جسيمًا على السائق والمحيطين به".

شهادات من الواقع المرير

شهادات المواطنين تعكس حجم الفاجعة بشكل أكثر قسوة. محمد، شاب يبلغ من العمر 28 عامًا، يروي كيف كاد أن يفقد حياته بسبب لحظة انشغال بالهاتف أثناء القيادة، قائلاً: "كنت أستخدم الهاتف للحظة فقط، ثم استيقظت في المستشفى. فقدت صديقي في الحادث، ولن أنسى تلك اللحظة ما حييت".

 أما رانيا، والدة أحد الضحايا، فتقول: "ابني توفي على طريق خلدة بسبب حفرة لم تُصلح حتى اليوم. هل حياة الناس لا تساوي شيئًا في هذا البلد؟".

واقع الطرق من منظور الخبراء

الخبراء في البنى التحتية يجمعون على أن الطرق اللبنانية لا تلبي الحد الأدنى من معايير السلامة العالمية. بعضها لا يصلح حتى لسير السيارات الصغيرة، فكيف تمر عليه شاحنات أو دراجات نارية؟ في حين يؤكد ضباط في قوى الأمن الداخلي أن محاولاتهم لضبط الوضع تصطدم بإمكانيات محدودة، مشددين على أن تطبيق القانون يتطلب دعمًا سياسيًا ومجتمعيًا لا يمكن تعويضه بالإجراءات الفردية.

الكلفة البشرية والاقتصادية

أمام هذا الواقع القاتم، لا تقتصر الكارثة على الخسائر البشرية، بل تمتد إلى الخسائر الاقتصادية، من أضرار جسيمة في الممتلكات إلى ضغط هائل على النظام الصحي، وفقدان طاقات شابة ومنتجة في وقتٍ يحتاج فيه لبنان لكل يد عاملة. ومع ذلك، فإن الحلول ليست غائبة، لكنها تتطلب إرادة صلبة وقرارًا سياسيًا جريئًا. من أبرز هذه الحلول: تطبيق صارم لقانون السير، إعادة تأهيل الطرقات، تركيب كاميرات ذكية، إطلاق حملات توعية موجهة، فرض دورات إلزامية للحصول على رخص القيادة، وتعزيز دور البلديات في الرقابة والتنفيذ.

النداء الأخير: هل تتحرك الدولة؟

إن ما يجري على طرق لبنان ليس قضاءً وقدرًا، بل نتيجة لإهمال مزمن ولا مبالاة قاتلة. القضية لم تعد تحتمل التأجيل ولا الخطابات، بل تستدعي تحرّكًا سريعا يضمن حماية أرواح الناس. فهل تتحرّك الدولة قبل أن تُكتب المأساة التالية؟ أم أن اللبنانيين سيبقون أسرى الموت المجاني على طرقات وطنهم؟


المنشورات ذات الصلة