عاجل:

ما هو النظام العالمي متعدد الأقطاب؟.. الجوانب النظرية والتطبيقية الراهنة (روسيا اليوم)

  • ١٧

دخلت العلاقات الدولية حقبة من التغيير. وأصبحت فكرة التعددية القطبية شائعة في المعجم الدبلوماسي والوثائق الدولية والمنشورات الإعلامية ونقاشات الخبراء.

بقلم: مدير إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية: أليكسي دروبينين

كبير مستشاري إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية: يفغيني بيسكونوف

نموذجان للتنمية العالمية

كان المفهومان الرئيسيان لتغيرات النظام العالمي حتى وقت قريب هما "العولمة" و"التعددية القطبية".

وقد اكتسب المفهوم الأول شعبيته عقب انهيار الاتحاد السوفيتي في الربع الأخير من القرن الماضي. وفي عام 1998 تم إقرار هذا المفهوم في قرار توافقي صادر عن هيئة الأمم المتحدة.

وكان الاعتراف العالمي بفرضية العولمة نتيجة لتضافر عوامل عدة:

أولا، فقد عدد من الدول مبادئها الاستراتيجية السابقة نتيجة لنهاية المواجهة بين الكتل.

ثانيا، سمح غياب تعريف متفق عليه للعولمة بتفسيرها بشكل تعسفي.

ثالثا، أدى ظهور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في الاقتصاد والسياسة العالميين إلى تكثيف عمليات تغريب العالم غير الغربي.

طرح مفهوم التعددية القطبية رسميا بالتزامن مع اعتماد الإعلان الروسي الصيني "حول عالم متعدد الأقطاب وتشكيل نظام دولي جديد" (1997). وفي الواقع السياسي آنذاك، جاء ذلك نتيجة لرفض الأفكار الوهمية عن العالم المحيط، بروح "التفكير الجديد" لغورباتشوف، وتحول أقطاب السياسة الخارجية الروسية إلى مواقف أكثر واقعية. وبعد أن حظيت فكرة التعددية القطبية في البداية بتأييد محدود للغاية، بما في ذلك داخل روسيا نفسها، ازدادت شعبيتها بعد عام، وجذبت أولئك الذين أدركوا قصور النماذج التي فرضها الغرب، وسعوا إلى التنمية دون المساس بالسيادة والهوية.

ولأكثر من عقدين من الزمن، تعايشت هاتان النظرتان للتنمية العالمية بتناغم تام في فلسفة السياسة الخارجية لدول الشرق والجنوب العالميين. وقد حقق هذا التوازن من خلال التركيز على وصف العمليات الدولية. وكانت الأغلبية العالمية قد فهمت العالمية "العولمة" على أنها نمو الترابط والاعتماد المتبادل وحرية التبادل (بحجم غير مسبوق في تاريخ البشرية).

أصبح مصطلح "التعددية القطبية" يشير إلى عملية موضوعية لتوزيع إمكانات التنمية العالمية وتعزيز مراكز مستقلة جديدة للنمو الاقتصادي وصنع القرار السياسي. وقد ساعد فهم تعقيد هذه العمليات وعدم اتساقها روسيا ودول أخرى غير غربية على الاستعداد للتحول الحالي في التنمية العالمية.

لا يمكن قول ذلك عن الغرب الجماعي، الذي اعتبر تحولات مطلع القرنين العشرين والحادي والعشرين فرصة تاريخية لتمديد هيمنته "مركزيته" لتشمل العالم، وترسيخ مكانته على قمة "الهرم السياسي والاقتصادي" الذي بني على خمسة قرن. وقد وضعت لهذه المهمة أسس أيديولوجية وفلسفية. تم رفض فكرة تعدد مراكز التنمية رفضا قاطعا، وأضفي على مفهوم العولمة طابعا مطلقا، مشبعا بمعاني الليبرالية الراديكالية، وتم تحويله إلى أداة تضمن "نزع الصفة الشخصية وفرض النموذج الغربي على العالم أجمع". ونتيجة لذلك تشوهت الأجندة الأيديولوجية والعملية للعلاقات الدولية، بما في ذلك أنشطة الأمم المتحدة وعدد من الآليات متعددة الأطراف بشكل كبير.

ومع ذلك، فقد كشف الواقع الدولي سريعا (وفقا للمعايير التاريخية) عن وهم النهج الغربي (لا سيما الأمريكي) وعدم جدواه. وتمثلت الخطوات العملية التي مهدت الطريق لعالم متعدد الأقطاب في إدخال العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" في التداول غير النقدي (1999)، وإنشاء منظمة "شنغهاي للتعاون" (2001)، ومجموعة "بريكس" (2006)، واعتماد معاهدة لشبونة، التي غيرت نظام حوكمة الاتحاد الأوروبي (2007). ودفعت مطالبات روسيا والصين والهند والبرازيل والاتحاد الأوروبي بدور مستقل العديد من الدول الكبرى إلى استغلال إمكانات كياناتها السياسية الدولية.

في الاقتصاد العالمي، كانت هناك عمليات مماثلة تسير على قدم وساق. ومن عام 2000 وحتى عام 2024 ارتفعت حصة الدول الخمس المؤسسة لمجموعة "بريكس" في الناتج المحلي الإجمالي من حيث معدل القوة الشرائية من 17.4% إلى 34.1%، بينما انخفضت حصة دول مجموعة السبع من 44.5% إلى 28.8% وتستمر الفجوة في الاتساع، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل هذا الفارق إلى 10% بحلول عام 2030 (ليصل نصيب دول "بريكس" إلى 36.3% ومجموعة السبع إلى 26.3%). يتم تقويض أساسيات النظام العالمي المتمركز حول الغرب من خلال تطوير نماذج التعاون من قبل دول الأغلبية العالمية التي تقلل من اعتمادها على الغرب. وفي نفس السياق تتجه العلاقات الدولية نحو الإقليمية في ظل أزمة آليات التفاعل متعددة الأطراف التي تسيطر عليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بل إن العلاقات الدولية في واقع الأمر اكتسبت طابعا متعدد الأقطاب، إذ تتزايد إمكانات المراكز غير الغربية باستمرار، بينما تتراجع قدرة أوروبا-الأطلسية على فرض إرادتها على الأغلبية العالمية.

وهنا تستحق العملية العسكرية الروسية الخاصة التي بدأت في فبراير 2022 ذكرا خاصا، حيث أظهرت بوضوح محدودية قدرات الهيمنة من جانب الولايات المتحدة وتوابعها. وبينما يدرك الجميع الأهمية السياسية للعملية، فإن دورها التحويلي في تاريخ العالم لم يتم تقييمه بعد.

إن حجم التحولات في النظام الدولي يجسده بشكل واضح تصريح رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ، خلال زيارته إلى موسكو، مارس 2023: "تجري الآن تحولات لم تحدث منذ مئة عام"، وفي مفهوم السياسة الخارجية لروسيا، الذي تمت الموافقة عليه بعد أسبوع من ذلك، يدور الحديث عن اختفاء النموذج غير المتوازن للتنمية العالمية الذي كان قائما لعدة قرون.

وخلال افتتاح الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر 2023، وصف الأمين العام أنطونيو غوتيريش الوضع العالمي بأنه "يتحرك سريعا نحو التعددية القطبية". وكرر هذا التقييم في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، يناير 2024، وفي الدولة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر 2024. وتصف الإدارة الأمريكية الحالية النظام العالمي أحادي القطب بأنه "نتاج شاذ لنهاية الحرب الباردة"، مؤكدة أن الوضع الدولي "يعود إلى ما كان عليه زمن العالم متعدد الأقطاب، حيث كانت هناك قوى عظمى متعددة في أنحاء متفرقة من الكوكب". ويمكن سماع تصريحات مماثلة في بعض العواصم الأوروبية. ومع ذلك، من الواضح أن هذه الآراء قد بدأت تشق طريقها في الغرب، بينما ينظر إلى التعددية القطبية على أنها تهديد للنظام العالمي أكثر من كونها مرحلة جديدة في تطور العالم.

وفي دول الجنوب والشرق العالميين، حيث تمتلك مفاهيم مناهضة الهيمنة والمساواة جذورها التاريخية العميقة، يستخدم مفهوم التعددية القطبية (بأشكاله ومظاهره المتنوعة) لوصف واقع العالم الجديد، وصورة المستقبل المنشود، والمنصة الأيديولوجية للعمل الجماعي. ولعل المعيار الحاسم يكمن في مواءمة صيغ "التعددية القطبية" في الوثائق الختامية للتجمعات متعددة الأطراف. ويمكن الإشارة إلى البيان الختامي لقمة "بريكس" في قازان، الذي اعتمد في أكتوبر 2024، وهو أول وثيقة مشتركة لهذا التجمع، تشير مباشرة إلى النظام الدولي متعدد الأقطاب.

وهكذا، في ظل التنافس غير الرسمي بين وجهتي نظر لمفهومي التنمية العالمية، تتجه كفة الميزان تدريجيا نحو "التعددية القطبية". وتفهم "العولمة" بشكل متزايد ليس كأساس أيديولوجي للعلاقات الدولية، بل كأحد العوامل المؤثرة (وإن كان بالغ الأهمية)، والتي تفقد أهميتها السابقة في ظل التشرذم المتزايد للفضاء الاقتصادي والتكنولوجي والأيديولوجي العالمي، وغيرها من الروابط التي أصبحت مألوفة في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

لكن هذا لا يعني حتى الآن الاعتراف العالمي الوشيك بالتعددية القطبية كنموذج توافقي للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. وكي يتحقق هذا السيناريو، لا بد من استيفاء شرطين على الأقل: الأول، قبول الدوائر الغربية الحاكمة لواقع التعددية القطبية (مع رفضها في الوقت نفسه للموقف الاستعماري الجديد المتجذر تجاه بقية البشرية). الثاني، الفهم المشترك من جانب المجتمع الدولي لكيفية تنظيم العلاقات الدولية في عصر التعددية القطبية.

تكمن خصوصية المرحلة الحديثة من تاريخ العالم في أن القدرات الاقتصادية والتنظيمية للجنوب والشرق العالميين قد تغيرت جذريا في القرن الحادي والعشرين. فالدول غير الغربية، وربما لأول مرة منذ قرون، أصبحت قادرة وراغبة، بمعزل عن "الاستراتيجيين" و"مهندسي" النظام العالمي الأوروبي-الأطلسي، في الانخراط في فهم جماعي وتصميم نماذج للتعاون والتنمية الإقليمية وعبر الإقليمية والعالمية، القائمة على مبادئ العدالة والمساواة والمنفعة المتبادلة.

وهذا العمل هو عملية طويلة ومضنية. ونحن نعلم، من واقع خبرتنا، أنه ينفذ في عدد من الدول الرائدة في الأغلبية العالمية، ونود أن نساهم في هذه القضية المشتركة، وأن نشارك رؤيتنا لبعض اللحظات المهمة مفاهيميا في سياق وضع استراتيجية لبناء نظام عالمي مستدام ومتعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين.

التعددية، التعددية القطبية، تعدد المراكز

لا بد أولا من تحديد المفاهيم.

كم صادفنا خلطا بين مصطلحي "التعددية" و"التعددية القطبية" من قبل محاورينا، حتى أنهم يعتبرونهما مصطلحين لنفس المفهوم. إلا أن ثمة فارقا بسيطا هنا. فالتعريف المتعارف عليه للتعددية ورد في القرار المفاهيمي للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يعرّفها بأنها "أداة لحل المشكلات العالمية المعقدة والمتعددة الجوانب، استنادا إلى العمل الجماعي". بالتالي يدور الحديث هنا عن شكل التفاعل بين أطراف العلاقات الدولية، ورغبتهم جميعا في حل المشكلات المشتركة معا. بمعنى أن التعددية أداة سياسية ووسيلة عمل جماعي للدول لا أكثر.

أما مصطلح "التعددية القطبية"، فهو ذو طبيعة مختلفة، حيث يميز توازن القوى واصطفافها على الساحة الدولية في ظل غياب قوة مهيمنة قادرة على فرض إرادتها على بقية البشرية. يمكننا اعتبار هذا المفهوم "ابن عمومة" حديث لمصطلح "التعددية" أو إذا استخدمنا مصطلحات أهل التكنولوجيا فهو "تحديث" Upgrade لمفهوم "توازن القوى" الكلاسيكي.

وبناء عليه، يمكننا تقديم النسخة المبسطة التالية لتعريف "العالم متعدد الأقطاب" بأنه حالة العلاقات الدولية التي يوجد بها عدة مراكز مستقلة للتنمية الاقتصادية وصنع القرار السياسي، تمتلك نفوذا دوليا، دون أن يكون لأي منها نفوذ يهيمن على الشؤون الدولية.

واستنادا إلى هذا المنطق، نقترح استخدام مصطلحي "العالم متعدد الأقطاب" و"متعدد المراكز" كمرادفين. حيث الأول أكثر انتشارا وترسخا، بينما يعكس الثاني جوهر القضية بدقة أكبر.

فكلمة "المركز" هي كلمة أسهل فهما وأكثر بديهية. علاوة على ذلك، لا تحمل تلك الكلمة الدلالة التي يتحدث عنها بعض النقاد، بزعم أن كلمة "قطب" تعني بالضرورة معارضة وانقساما ومواجهة "استقطاب". على وجه الخصوص، فإن هذا التفسير السلبي، بما في ذلك ما يتعلق بتجربة القطبية الثنائية إبان الحرب الباردة، شائع بشكل خاص بين السياسيين والمثقفين الغربيين. على سبيل المثال يمكننا تتبعه في موقف الرئيس الإداري نفسه للأمم المتحدة البرتغالي أنطونيو غوتيريش، الذي يصف الوضع الراهن للعلاقات الدولية بتعبير "في خضم الاستقطاب". وبصورة أكثر توسعا وتسييسا، يمكن تتبع هذا النهج في أبحاث خبراء "البلاط" في مؤتمر ميونيخ للأمن.

ومع ذلك، فإن الاستخدام الأوسع لهذا المفهوم ومشتقاته ("العالم متعدد الأقطاب"، إلخ) في العمل السياسي والدبلوماسي يصب في صالح التعددية "القطبية"، وسيكون من الخطأ أيضا التخلي عنها.

فما هو إذن "القطب"؟

للاقتراب من الإجابة على هذا السؤال حول كيفية تنظيم العلاقات الدولية في عصر متعدد الأقطاب، فإن الفهم الصحيح لمفهوم "القطب" (المركز) في عالم متعدد الأقطاب له أهمية قصوى.

يحدد مفهوم السياسة الخارجية الروسية كل من روسيا والصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية من بين الدول التي يمكن إطلاق صفة "أقطاب" عليها. كذلك يحدد ذلك المفهوم آفاق التحول المستقبلي لدول الحضارة الإسلامية وإفريقيا إلى مركزين مستقلين للتنمية العالمية. أي أن النقطة الأساسية، من وجهة النظر الروسية، هي أن الدول الكبرى المؤثرة والروابط الدولية ("الأقطاب الجماعية") تصبح أقطابا في العالم متعدد الأقطاب.

كذلك فإن القائمة المذكورة أعلاه في مفهوم السياسة الخارجية الروسية للأقطاب الحالية والمحتملة ليست شاملة بالطبع. فلاعبون بارزون مثل البرازيل ورابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" وغيرها لديهم فرص جيدة لترسيخ مكانتهم كمراكز عالمية للنظام العالمي الناشئ متعدد الأقطاب. كذلك فإن الفرصة لا زالت متاحة لذلك الجزء من أوراسيا الذي نسميه أوروبا القارية. ومع ذلك، يطرح في هذا السياق السؤال الحتمي حول المعايير التي يجب أن يستوفيها أي كيان ليعتبر قطبا.

وبناء على التاريخ العالمي والاتجاهات الدولية الحديثة، يمكن اقتراح القائمة التالية من المعايير:

 المعيار السياسي: السيادة/الاستقلال الحقيقي في اتخاذ القرارات السياسية ذات الأهمية الإقليمية والعالمية.

 المعيار الاقتصادي: مستوى مرتفع من الاكتفاء الذاتي واستدامة الاقتصاد/الاقتصادات نتيجة الوصول الموثوق إلى مجموعة واسعة من الموارد والتقنيات لاستغلال هذه الموارد.

 المعيار التكاملي: مستوى عال من التوحيد والاستقرار الداخلي، بما في ذلك بسبب وجود عوامل توحيدية مثل الإطار الاقتصادي الموحد/التكامل، والثقافة السياسية المتجانسة، والقيم الروحية والأخلاقية المشتركة، وغيرها من عناصر الهوية الحضارية.

 المعيار الجغرافي: التجاور الجغرافي النسبي.

معيار المشروع: التطبيق الناجح لنموذج التنمية الوطنية (المحلية) الخاصة ومشروع التكامل الوثيق بين الولايات/المحافظات/الجمهوريات/الدول، وهو أمر يحمل أهمية خاصة بالنسبة لـ "الأقطاب الجماعية".

المعيار المفاهيمي: الرؤية الخاصة لآفاق التنمية العالمية (الأجندة العالمية) وتعزيزها على الساحة الدولية، بما في ذلك من خلال القدرة والإرادة السياسية على تقاسم جزء من مواردها وتقنياتها مع بلدان أخرى لهذا الغرض، والعمل كمورد للسلع العامة ذات الأهمية العالمية.

ويمكن تقسيم الأقطاب (المراكز) بشكل مشروط إلى عالمية وإقليمية، وذلك بحسب النطاق الجغرافي لأنشطتها ودرجة تأثيرها على الأمن العالمي والسياسة والاقتصاد وغيرها من مجالات العلاقات الدولية.

وبناء على المعايير المذكورة أعلاه، يسهل فهم طبيعة "القطب الجماعي"، حيث من البديهي أنه لا يمكن لأي اتحاد دولي أن يلعب هذا الدور، حيث ظهر خلال الثمانين عاما الماضية من وجود هيئة الأمم المتحدة، وفقا لبعض التقديرات، أكثر من 300 اتحاد. ولا يمكن اعتبار أي من تلك الاتحادات قطبا إلا حينما يمكن أعضاءه من إدارة سياسة خارجية ذات سيادة حقيقية تحقق أهدافهم على الساحة الدولية من خلال الاستخدام المشترك للموارد والتقنيات. في الوقت نفسه، وبالنسبة للدول المشاركة في "القطب الجماعي"، فنحن لا نتحدث هنا عن التخلي عن السيادة الوطنية، بل على العكس، يمكننا الحديث عن "توسع استراتيجي" لتلك الدولة، وزيادة إمكانيات تطبيقه، إضافة إلى ظهور نوع من "السيادة الجماعية" في العلاقات مع أطراف ثالثة متساوية أو أكثر تأثيرا في نفوذها.

ومن الأمثلة البارزة على هذا القطب نظام التفاعل متعدد المستويات والأنماط الذي تشكله دول رابطة دول جنوب شرق آسيا، الذي يمنح الدول المشاركة "استقلالية استراتيجية" في علاقاتها مع القوى العالمية، لكنه، في الوقت نفسه لا يقوّض فرصها في التنمية الحرة كدول مستقلة.

ويمكن القول، بدرجة من اليقين، إن أهمية "الأقطاب الجماعية" سوف تزداد كإحدى عواقب البيئة الدولية المتزايدة التعقيد، حيث أصبح من الصعب بشكل متزايد على الدول، لا سيما الصغيرة والمتوسطة الحجم، أن تتعامل بمفردها مع طيف التحديات والتهديدات التي تنشأ ضد إرادتها.

السمات التاريخية المميزة للنظام العالمي الحديث متعدد الأقطاب

يرى منتقدو مفهوم التعددية القطبية أن تاريخ العالم شهد فترات تعددت فيها مراكز القوى والتنمية على الساحة الدولية. لهذا، فإن المرحلة الراهنة، عصر التعددية القطبية، ليست فريدة، مؤكدين أنه لا جدوى من "إثارة ضجة" أو "إنشاء كيانات".

وقد نسمح لأنفسنا هنا الاختلاف مع هذا الرأي. ولنستشهد في هذا المقام بموقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريحه: "يتشكل أمام أعيننا نظام عالمي جديد كليا، بعكس كل ما نعرفه عن الماضي مثل نظامي ويستفاليا ويالطا. يختلف هذا النظام عن النسخ السابقة بتركيبه، ووجود ظاهرتين متوازيتين تبدوان متنافيتين: الصراع المتنامي بسرعة، وتفكك المجال السياسي والاقتصادي والقانوني من جهة، والترابط الوثيق المستمر للفضاء العالمي بأكمله من جهة أخرى".

استنادا لهذه الفكرة، سنحاول تحديد بعض العوامل الأخرى على الأقل التي تميّز التعددية القطبية الحديثة عن نماذج النظام العالمي التي تضم عدة مراكز قوة كانت موجودة بالفعل في التاريخ السياسي:

 في حقبة ما قبل الاستعمار، تطورت مراكز العالم بشكل مستقل إلى حد كبير عن بعضها البعض بسبب انعدام الاتصالات العالمية. أما الآن، ونتيجة للعولمة الاقتصادية، لم تعد هذه المراكز تعمل بمعزل عن بعضها البعض، بل في ظروف تنسيق وترابط عالمي لا مثيل لها في تاريخ البشرية.

 في عصر الاستعمار، كانت المراكز العالمية جزءا من حضارة واحدة (أوروبية)، بينما كانت جميع القوى الأخرى، باستثناء واحد (الإمبراطورية العثمانية) في وضع تابع لهذه الحضارة، ولم تتح لها فرصة إظهار إمكاناتها الحضارية الإبداعية بالكامل. أما في العالم الحديث، أصبحت المراكز العالمية تمثل، من بين أمور أخرى، حضارات ومناطق كبرى، تطبق كل منها وتقدم للعالم الخارجي نماذجها الأصيلة والمتفردة والمنافسة تماما للتعاون والتنمية. وفي إطار الغرب الجماعي، أخضع القطب الأنغلوساكسوني أوروبا القارية استراتيجيا، بينما مستقبل تلك الوحدة غير محدد مسبقا.

خلال الحرب الباردة، لم يكن لسياسة الدول التي تتجنب الانجرار إلى الصراع بين الكتلتين تأثير جوهري على مسار المواجهة العالمية. في ظل الظروف الحديثة، على سبيل المثال، لا تشارك الغالبية العظمى من دول الجنوب والشرق العالميين في العقوبات ضد روسيا والصين. وهذا بدوره يحد بشكل كبير من فعالية إجراءات الضغط التي تتخذها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول التي انضمت إليهما، هو ما يساهم جزئيا في استقرار الوضع الدولي. علاوة على ذلك، ومن خلال دمج الإمكانات في إطار صيغ التكامل، عززت دول الأغلبية العالمية "صوتها" في الشؤون الدولية لدرجة أنها أصبحت بالفعل مشاركا كاملا في الصراع الدائر حول معالم النظام العالمي المستقبلي. بمعنى آخر، ففي الظروف الحديثة، وبعكس العصور الماضية، أصبحت أفعال تلك الدول تتمتع بأهمية عالمية مستقلة.

في النصف الثاني من القرن العشرين، اضطلعت الأمم المتحدة بدورها كمركز لتنسيق مصالح الدول الرائدة، وقد أيدت الدول المؤسسة للأمم المتحدة هذا الدور عموما. في القرن الحادي والعشرين ازدادت أهمية الآليات متعددة الأطراف، ذات البنية الشبكية المحدودة (مجموعة العشرين، بريكس، مجموعة الدول السبع، ميكتا، وغيرها) في تنسيق المناهج المفاهيمية والإجراءات العملية للجهات الفاعلة الرائدة، دون أن تعاني من العيوب الكامنة في المنظمات الدولية (مثل "خصخصة" أماناتها من قبل بعض الدول الأعضاء، والبيروقراطية المفرطة، وإرهاق جدول الأعمال بالأيديولوجيات الليبرالية/العولمية، وروتين اتخاذ القرارات، وغيرها).

علاوة على ذلك، وكما ذكرنا آنفا، فقد تجاوز عدد الاتحادات الدولية 300 اتحادا، وغطت أنشطتها جميع مجالات العلاقات الدولية تقريبا. وهكذا، تم تسجيل 108 منظمة حكومية دولية من جميع أنحاء العالم كمراقبين دائمين في الجمعية العامة للأمم المتحدة وحدها. في الواقع، تواصل الدول سنويا، إنشاء تحالفات مصالح رسمية وغير رسمية، وآليات مصغرة، ومنصات تعاون إقليمية تكمل جزئيا أو توجد بديلا للتحالفات القائمة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك، إنشاء عشرات الدول في 30 مايو 2025 في هونغ كونغ للمنظمة الدولية للوساطة، المصممة لتعزيز الحل السلمي للنزاعات الدولية.

على وقع هذه الخلفية، تتراجع قدرة الأمم المتحدة على تحقيق غاياتها القانونية وتلبية الاحتياجات الحيوية لدولها الأعضاء باستمرار. ويتطور وضع مماثل في منظمة التجارة العالمية، وبريتون وودز، وغيرهما من المؤسسات العالمية ذات النفوذ الغربي الكبير بشكل غير متناسب. وسيعتمد مكانها في البنية الدولية المستقبلية على قدرتها على التكيف مع واقع التعددية القطبية وخدمة البشرية جمعاء، وليس فقط مجموعة من الدول.

صورة مستقبل متعدد الأقطاب: وجهة النظر الروسية

إن روسيا، باعتبارها أحد المراكز العالمية المؤثرة والمسؤولة في التنمية العالمية، مهتمة بعملية بناء عالم متعدد الأقطاب "أكثر توازنا ويلبي مصالح الغالبية العظمى من الدول"، وقد صيغت وترسخت لأول مرة منظومة الرؤى الرسمية حول كيفية تحقيق ذلك، وما ينبغي أن يكون عليه النظام متعدد المراكز للعلاقات الدولية في نهاية المطاف، في مفهوم السياسة الخارجية الروسية لعام 2023 (من أن محاولات "مقاربة" لهذه القضية قد بذلت في طبعات سابقة من نفس الوثيقة).

وتحدد الفقرة 18 من مفهوم السياسة الخارجية الروسية المعايير الأساسية لفعالية النظام الدولي المستقبلي (القدرة على ضمان أمن مستدام، والحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية، وتكافؤ فرص التنمية لجميع الدول). في الوقت نفسه، قدمت الوثيقة قائمة تقريبية للمبادئ التنظيمية الأكثر طلبا من منظور تنظيم العلاقات في العالم بعصر التعددية القطبية.

ويمكن تقسيم هذه المبادئ إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى: تلك التي تعتبر مبادئ أساسية للقانون الدولي، مثل المساواة في السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. من المهم الأخذ في الاعتبار أن غياب أي ذكر لمبادئ قانونية دولية أخرى معترف بها عموما في هذه الفقرة لا يعني أنها غير ذات صلة بروسيا والعالم متعدد الأقطاب الناشئ. بل على العكس، يؤكد المفهوم التزام بلدنا بها وبمبدأ سيادة القانون الدولي بشكل عام. علاوة على ذلك، تؤكد روسيا على أن المبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1970 في مجملها وترابطها هي التي ينبغي أن تشكل الأساس القانوني لعالم متعدد الأقطاب. وبالطبع، سيكون من المهم تعزيز هذا الأساس بشكل مشترك كلما دعت الحاجة وبرزت الفرصة، حيث ينطلق مبدأ السياسة الخارجية الروسية من ضرورة التطوير التدريجي للقانون الدولي، "بما في ذلك مراعاة واقع العالم متعدد الأقطاب". وفي سياق التغيير التاريخي للنظام العالمي، يتزايد دور الالتزامات القانونية كأداة لبناء دعائم استراتيجية وضمان استقرار العلاقات الدولية. ووفقا لتصريحات الرئيس بوتين في نادي "فالداي" للحوار، نوفمبر 2024: "يجب بالطبع القيام بذلك بعناية، ولكنه أمر لا مفر منه. فالقانون هو انعكاس للحياة وليس العكس".

المجموعة الثانية: هي مبادئ معروفة للمجتمع الدولي منذ زمن طويل، ولكنها، ولأسباب مختلفة، لم تحظ بدعم وترسيخ على المستوى الدولي في السنوات السابقة، سواء على الصعيد القانوني أو السياسي. وفي ظل الظروف الجديدة للتعددية القطبية، من المهم لجميع الدول إعادة النظر في التطورات المذكورة أعلاه. على سبيل المثال، يمكن للاعتراف العالمي بمبدأ الأمن المتساو غير القابل للتجزئة وتطبيقه أن يخففا بشكل جذري من حدة الصراع المتنامي بين بعض الأقطاب، وأن يضعا الوضع الدولي على مسار الاستقرار والتعافي المستدام

المجموعة الثالثة: هي مبادئ مبتكرة، بالغة الأهمية للحفاظ على توازن القوى المستدام وطويل الأمد بين مراكز التنمية العالمية (الدول ومنظماتها)، إضافة إلى توسيع نطاق فرص الحفاظ على الذات والتنمية الناجحة للقوى الصغيرة والمتوسطة. ويمك تسميتها بـ "مبادئ التعددية القطبية"، والتي من بينها رفض الهيمنة في الشؤون الدولية والقيادة المسؤولة للدول الرائدة وتنوع الثقافات والحضارات ونماذج التنظيم الاجتماعي ورفض جميع الدول فرص نماذجها التنموية ومنظوماتها الأيديولوجية والقيمية على الدول الأخرى، وغيرها.

وفي المجموعة الثالثة، يحتل رفض الهيمنة مكانة خاصة. وسنتناوله بمزيد من التفصيل، بما في ذلك تجنب تكهنات أو تحريفات محتملة. وينبع هذا المبدأ من الاستنتاج الأساسي حول فشل وخطورة نموذج الحوكمة العالمية القائم على مركز واحد لصنع القرار. وقد أثبت مسار الأحداث التاريخية في الربع الأول من القرن الحالي ذلك بوضوح تام. وإذا نظرا إلى الوراء 25 عاما، وقيمنا حجم الاضطرابات والتغيرات في العالم، ثم أسقطنا هذه التغيرات على السنوات القادمة، لرأينا عقم محاولات الأقلية الغربية للتمسك باحتكارها. لقد أصبح العالم معقدا للغاية بحيث لا يمكن تطبيق مخططات الحكومة السابقة عليه. على العكس من ذلك، فإن احترام التنوع، وهو أمر طبيعي بالنسبة للمجتمع الدولي، ورفض المعايير المزدوجة و"اللعبة الصفرية"، والسعي إلى توازن المصالح، هي مفتاح نظام عالمي مستقبلي خال من الصراعات ومستقر.

وبدعوتها إلى إدخال مبدأ عدم جواز الهيمنة المنفردة في النظام الدولي، لا تعتبر روسيا الحضارة الغربية عدوا أبديا. ليس لروسيا أعداء أبديون، بل مصالح وطنية فقط. وفي عالم متعدد الأقطاب، من الطبيعي، بل من المرغوب فيه، أن يظل الغرب، وفقا لبوتين في تصريحاته 2024، "أحد أهم عناصر النظام العالمي، لكن لا بد من التركيز هنا على أنه (مجرد واحد من هذه العناصر)، على قدم المساواة مع الدول ومجموعات الدول النامية الأخرى". علاوة على ذلك، سيكون تطبيق المبدأ المذكور منصفا لجميع الحضارات الأخرى، إذا حاولت أي منها الإخلال بالتوازن العالمي في المستقبل.

النقطة الأهم هي أن قائمة مبادئ تنظيم العلاقات الدولية في عصر التعددية القطبية، الواردة في مفهوم السياسة الخارجية الروسية، ليست شاملة. فقد طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطابيه السياسيين في نادي "فالداي" للحوار، أكتوبر 2023، ونوفمبر 2024، مجموعة متكاملة من المبادئ الجديدة، من بينها انفتاح العالم وترابطه، وبيئة دولية خالية من العراقيل، وأقصى تمثيل في اتخاذ القرارات العالمية المهمة.

ختاما، نود الإشارة هنا إلى أن روسيا، برؤيتها الخاصة لمستقبل متعدد الأقطاب، تعمل باستمرار على تطويره بشكل إبداعي، لكنها لا تسعى بأي حال من الأحوال إلى فرضه على الدول الأخرى. بلدنا مستعد ويدعو إلى إقامة حوار تدريجي حول سبل مواءمة المؤسسات والآليات الدولية لتنظيم العلاقات الدولية مع الحقائق التاريخية الموضوعية للقرن الحادي والعشرين. ينبغي على السياسيين والدبلوماسيين والمفكرين وكل من يهتم بمصير عالمنا المشترك المشاركة الفعالة في هذا الحوار.


المنشورات ذات الصلة