جوي ب. حداد – خاص – "إيست نيوز"
في شوارع لبنان، لم يعد مشهد علبة مشروب الطاقة في يد شاب أو شابة أمراً نادراً.
بل أصبح مشروب "الطاقة الفورية" رفيقاً دائماً في يوميات جيل بأكمله، منهك نفسياً ومُستنزف جسدياً تحت وطأة الظروف الاقتصادية والمعيشية.
ومع ارتفاع درجات الحرارة صيفاً، يتضاعف الإقبال على هذه المُنتجات، في بحثٍ بائس عن "دفعة" تعيد شحن الجسد... وإن بشكل زائف.
لكن خلف هذه العلب المعدنية اللامعة، تَختبئ قنابل صحية موقوتة.
فبحسب دراسة أعدّها "المرصد اللبناني للصحّة المُجتمعية" عام 2025، فإن نحو 64% من شباب لبنان يَستهلكون مشروبات الطاقة بانتظام، غالبيتهم من دون معرفة دقيقة بمخاطرها.
تتكوّن مُعظم هذه المشروبات من نسب مرتفعة من الكافيين، السكّر، والتورين، ما يجعلها أشبه بخليط منبّه للجسم على المدى القصير، لكنه منهك وخطر على المدى البعيد.
أعراض مثل تسارع ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، والأرق، والقلق، والصداع، لم تعد غريبة عن كثير من الشباب الذين يتناولون هذه المشروبات بصورة شبه يومية.
وتزداد خطورتها عندما تُستهلك خلال ممارسة نشاط بدني أو تحت أشعة الشمس الحارقة، حيث يفقد الجسم السوائل بسرعة، ويتضاعف الضغط على القلب والجهاز العصبي.
نجا خليط من مكونات تؤذي القلب
في هذا السياق، يؤكّد اختصاصي جراحة القلب والشرايين الدكتور عماد نجا لـ "إيست نيوز" أن "مشروبات الطاقة تحتوي عادةً على مزيج من المكوّنات المصمّمة لتوفير دفعة مؤقتة من الطاقة والتركيز، أبرزها الكافيين، التورين، فيتامينات ب، الغوارانا، والجينسنغ، إلى جانب كميات كبيرة من السكّر أو المحليات الصناعية".
ويُضيف: "تشمل تركيبتها أيضاً مواد مثل الغلوكور ونولاكتون، وتُشكّل هذه المكوّنات معاً مزيجاً منبّهاً يُوفّر طاقة سريعة للجسم، لكنه في الوقت نفسه قد يُغيّر طريقة عمل خلايا القلب، ما يؤدي إلى تسارع أو اضطراب في ضرباته. يُشبه ذلك تشغيل محرّك السيارة على أقصى سرعة من دون إحماء، وهو أمر بالغ الخطورة، خصوصاً لدى من يُعانون من مشاكل قلبية أو ارتفاع في ضغط الدم".
ويُتابع نجا: "يمكن لمشروبات الطاقة أن تؤثر على القلب بعدة طرق خطيرة، أبرزها ارتفاع معدل ضربات القلب وضغط الدم، ما يُعتبر من عوامل الخطر الأساسية للإصابة بأمراض القلب. وتُشير بيانات من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH) إلى أن الإفراط في تناول هذه المشروبات قد يؤدي إلى اضطرابات في نظم القلب ومشاكل صحية أخرى، لا سيّما بين الشباب الذين يستهلكونها بكثرة من دون إدراك للمخاطر".
ويُضيف: "خلال الأشهر الماضية، استقبلنا حالات عدّة لشباب في العشرينيات من أعمارهم، دخلوا قسم الطوارئ بسبب تَسارع ضربات القلب، وفقدان الوعي، وبعضهم توفّي نتيجة توقّف مفاجئ في عضلة القلب. كان العامل المُشترك في معظم هذه الحالات هو الاستهلاك المفرط لمشروبات الطاقة، وخصوصاً في ظروف مناخية حارّة أو بعد مجهود رياضي".
المُفارقة المؤلمة أن هذه المشروبات، التي تُسوّق على أنها "آمنة" ومُعزِّزة للنشاط، تُباع بحرية تامة، وغالباً بلا أي رقابة صحية أو تحذيرات واضحة على عبواتها.
ما يجعل الأمور أكثر خطورة، هو استخدامها من قبل المُراهقين، بل وحتى طلاب المدارس، وسط غياب أي توعية جديّة في المناهج التربوية أو الإعلام العام حول آثارها على الصحة الجسدية والنفسية.
ففي غياب الثقافة الصحية، يصبح الجهل عدواً قاتلاً. وهنا تكمن المُعضلة: لا في المنتج وحده، بل في الترويج الواسع له، مقابل صمت المؤسّسات الرسمية، وتراجع دور الأهل والمدارس في التنبيه إلى مخاطره.
ورغم تنامي الظاهرة، لا يزال الدور الرقابي والتوعوي من الجهات الرسمية دون المُستوى المطلوب.
فوزارة الصحة العامة لم تُصدر بعد تحذيراً واضحًا أو حملات توعية فعالة حول أخطار مشروبات الطاقة، فيما تغيب وزارة الإقتصاد عن مُراقبة الإعلانات الترويجية المضلّلة التي تستهدف فئة الشباب، وغالباً ما تُسوّق لهذه المشروبات كمُنتجات "رياضية" أو "منشّطة" دون الإشارة إلى مضارها.
نعمي والأعمار الموصى بها
وفي هذا السياق، أكّدت الدكتورة ندى نعمي، نائب جمعية حماية المُستهلك - لبنان والمُتخصّصة في سلامة الغذاء، في تصريح لـ "إيست نيوز"، أنّ مشروبات الطاقة تُشكّل خطرًا حقيقيًا على صحّة المُستهلك، لا سيّما في ظلّ استهلاكها العشوائي من قِبل فئات عمرية لا يُوصى لها بها.
وشدّدت على أنّ "مسؤولية وزارتيْ الصحّة والإقتصاد أساسية، من خلال فرض الشروط اللازمة على الشركات وتشديد الرقابة على الأسواق"، مُضيفة أنّ "دور جمعيات حماية المُستهلك يبقى محورياً في رفع مُستوى الوعي بمخاطر هذه المنتجات".
وأردفت بالقول: "يجب الجمع بين الإجراءات التنفيذية الفعّالة وتوعية المُستهلك، لضمان سلامته وحمايته من أي ضرر ناتج عن الاستهلاك المفرط أو الخاطئ لهذه المشروبات".
وقالت في حديثها "رغم الأدلة العلمية التي تُثبت أضرار هذه المشروبات، ما زلنا نُشاهد إعلانات تروّج لها بشكل واسع، ونراها تُباع في العديد من المتاجر من دون أي حسيب أو رقيب، وغالباً من دون تحذيرات واضحة على العبوة، وإن وُجدت تكون بخط صغير جداً لا يلفت النظر".
واعتبرت: "كل الفئات تشتري هذه المنتجات، وخصوصاً الشباب تحت السن، والخطر يزداد عندما نجد هذه المشروبات في متاجر قريبة من المدارس".
وأن "الرقابة شبه غائبة"، مشددة على ضرورة فرض تحذيرات واضحة على العبوات، وتحديد الفئات العُمرية المسموح لها بالاستهلاك، ومنع الترويج العشوائي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كما لفتت إلى أن "سعر هذه المُنتجات المتدني نسبيًا يشجّع على استهلاكها بشكل يومي، ما يزيد من حدّة المشكلة".
"وأهمّ إجراء على الدولة اتخاذه هو إلزام الشركات بوضع ملصق تحذير من مخاطر هذه المشروبات، مع منع استخدامها من قبل الأطفال، والنساء الحوامل، ومرضى القلب".
وختمت نعمي لـ "إيست نيوز" بالتأكيد على "دور جمعيات حماية المُستهلك من خلال تنظيم الندوات، ورفع مستوى التوعية، خصوصًا أن فئة الشباب تستهلك مشروبات الطاقة بكثرة، لا سيّما خلال فترة الدراسة أو ممارسة الرياضة أو ضغط العمل".
جمعية حماية المُستهلك تحذر القاصرين
أما جمعية حماية المُستهلك، فقد دعت مراراً إلى وضع ضوابط على بيع هذه المُنتجات، وخصوصاً للقاصرين، وإلزام الشركات بإضافة تحذيرات واضحة على العلب، إلا أن استجابتها بقيت محدودة في ظلّ غياب تشريعات ملزمة وتنسيق فعّال بين الجهات المعنية.
ليس المطلوب منع هذه المشروبات بالقوّة، ولا تجريم استهلاكها، بل العمل على نشر الوعي الوقائي بوسائل فعالة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
حملات إعلامية، وبرامج مدرسية، ومُلصقات تحذيرية، وحتى وضع قيود على بيعها للقاصرين.
أما الحل الحقيقي، فهو العودة إلى مصادر الطاقة الطبيعية: نوم كافٍ، وغذاء متوازن، وشرب المياه، والنشاط البدني المُنتظم.
لأن طاقة الإنسان لا تُصنع في المصانع، بل تُبنى بالصحّة والوعي والعقل.
كم قلباً آخر يجب أن يتوقّف، قبل أن نستفيق من خدعة "الطاقة" المعلّبة؟
وهل ننتظر جريمة صحية مُكتملة الأوصاف والأركان، كي ندرك أن حياة أولادنا ليست عبوة تُشرب على عجل، ولا طاقة تُصنع في مصانع، بل أمانة نحميها... قبل أن تُطفأ أرواحهم بصمت؟