جوي ب. حدّاد ـ خاص ـ "ايست نيوز"
منذ أن أُنجز اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في خريف العام 2022، سادَ شعور عام بأن البلاد باتت على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها: "لبنان دخل نادي الدول النفطية".
آنذاك، ضجّت التصريحات السياسية بالبشائر والوعود، وتحوّل ملفّ النفط والغاز إلى أيقونة أمل في بلدٍ أنهكته الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية المُتلاحقة.
لكن بعد نحو ثلاث سنوات، لم يَتجاوز الأمر حدود التصريحات الرنّانة والخطابات الشعبوية، فيما الواقع على الأرض بقي جامداً، إن لم نقل مُتراجعاً.
فأين أصبحت رحلة النفط اللبنانية؟
ولماذا لا تزال الثروة المدفونة في مياه المتوسط حبراً على ورق؟
عناوين كثيرة: وأفعال قليلة..
قد يكون من الإنصاف الإشارة إلى أن البيان الوزاري لحكومة الرئيس نوّاف سلام لم يُغفل أهميّة الملفّ، بل خصّص له حيّزاً واضحًا، قائلاً: "في مجال الطاقة، ستسعى الحكومة أيضاً إلى استئناف العمل في مجال التنقيب عن النفط والغاز". لكن كما درجت العادة في لبنان، لا تعني البنود شيئاً ما لم تتحوّل إلى سياسة تنفيذية مدروسة مقرونة بقرار سياسي جامع.
وبالفعل، فإن الحفر الاستكشافي الذي أُجري في البلوك رقم 9 أواخر العام 2023 لم يؤدِّ إلى نتائج مُبشّرة، بحسب ما أعلنت شركة "توتال" الفرنسية، ما دفع بالملف إلى التجميد الضمني، دون أي إعلان رسمي عن استراتيجية بديلة أو خريطة طريق واضحة لمُتابعة الاستكشاف في البلوكات الأخرى، خُصوصاً تلك التي لم تمسّها أي أعمال تقنية منذ إطلاق دورة التراخيص الأولى.
حقل "قانا": تقرير غائب وقرار مؤجَّل..
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل مصير التقرير الفنيّ الذي يفترض أن تُقدّمه شركة "توتال" الفرنسية بشأن نتائج الحفر في حقل "قانا" ضمن البلوك رقم 9. فعلى الرغم من انتهاء أعمال الحفر منذ أواخر العام 2023، لم تُسلّم الشركة حتى اليوم تقريرها الكامل إلى الدولة اللبنانية، ما أثار استغراب المعنيين بالملفّ، لا سيّما أن هذه الوثيقة تُعتَبر حجر الزاوية في اتّخاذ القرار بشأن الاستمرار في الاستثمار أو إعادة تقييم الجدوى.
تشير مصادر مطلّعة إلى أن وزارة الطاقة طلبت رسمياً استلام التقرير في ربيع 2024، وأن "توتال" وعدت بتقديمه خلال أسابيع من نهاية أيار 2025، لكن التأخير المُستمرّ يُعزّز الشكوك حول وجود اعتبارات سياسية أو استثمارية غير مُعلنة تتحكم بمسار الملفّ. وفيما تؤكّد الشركة أنها رصدت مؤشّرات واعدة من حيث التكوينات الجيولوجية ووجود آثار للغاز، إلا أنها لم تُعلن عن اكتشاف تجاري واضح، ما يُبقي الملف عالقاً في المنطقة الرمادية.
وفي هذا السياق، قالت المُتخصّصة في شؤون النفط والغاز، لوري هايتيان، لـ"إيست نيوز"، إن "لا معلومات واضحة حول أسباب التأخير في تقديم التقرير"، مُشيرة إلى أن "الوزير وهيئة إدارة قطاع البترول همّ فقط من يملكون الإجابات". وأضافت: "التقرير تأخّر لما يقارب السنتين، رغم الوعود المُتكرّرة بتقديمه، ومن غير المفهوم سبب هذا التلكّؤ".
التعقيدات السياسية: عائق لا ينفك يتكرّر..
ليس خافياً أن ملفّ النفط في لبنان ليس مُجرّد ملف اقتصادي أو تقني. إنه ملف سيادي بامتياز، يَتشابك مع التوازنات الطائفية، والتجاذبات الإقليمية، والصراعات الدولية، وهو ما جعله في كثير من الأحيان رهينة مواقف مُتضاربة، وإرادات لا تلتقي إلا على إجهاض أي مشروع إصلاحي أو إنتاجي.
ومع أن بعض القوى السياسية لا تزال تدعو إلى "تحييد ملف النفط عن النزاعات"، إلا أن المُمارسات على الأرض تثبت العكس. فحتى توزيع البلوكات وترسيم الأولويات فيه خضع في مراحل عديدة لاعتبارات لا تمت إلى المصلحة الوطنية بصلة، بل إلى "الجيوب السياسية" التي تحاول توظيف الثروة المفترضة في معارك النفوذ والمكاسب الشخصية.
"الشرط الإقليمي" غير المُعلن..
ما يُقال في الكواليس الدبلوماسية أخطر بكثير مما يُعلن في البيانات الرسمية. فبحسب مصادر على تماس مُباشر مع الملفّ، هناك قناعة شبه راسخة لدى بعض العواصم الغربية بأن الاستثمار الكامل في قطاع الطاقة في لبنان، سواء عبر الشركات الكبرى أو عبر المؤسّسات التمويلية الدولية، لن يحصل فعلياً إلا بعد تسوية سياسية كُبرى في المنطقة، قد يكون أحد أركانها توقيع سلام رسمي بين لبنان وإسرائيل.
قد يبدو هذا الكلام مُستفزّاً، وربما غير قابل للتطبيق ضمن البنية الحالية للبنان، لكنّه يعكس واقعاً قائماً في المنطقة: مُعظم المشاريع العابرة للحدود، سواء في الغاز أو الكهرباء أو حتى تحلية المياه، تمرّ في خانة "التطبيع"، أو أقلّه في خانة التعاون غير العلني، وهو ما يجعل من لبنان، بما يحمله من مواقف مُتصلّبة تجاه إسرائيل، دولة مَعزولة عن المسارات الإقليمية الكبرى في مجال الطاقة.
غياب القرار الحاسم لدى الكونسورتيوم
إلى ذلك، أوضحت هايتيان أن الكونسورتيوم العامل في قطاع الاستكشاف، والذي يضمّ توتال إينيرجي، إيني، وقطر للطاقة، لم يُعلن حتى الآن، ولو بشكل علني، عن قراره بشأن البلوك رقم 9، رغم انتهاء العقد منذ أيار 2025. ورأت أن هذا الركود في ملفّ النفط في لبنان يُقابله دينامية إقليمية مُتسارعة.
وقالت إن شركة "سوكار" الأذربيجانية أصبحت فاعلة في المنطقة من حيث الحصول على حقوق تنقيب داخل البلوكات الإسرائيلية على الحدود مع لبنان وعلى نقل الغاز إلى سوريا.
وختمت هايتيان: "على الدولة اللبنانية أن تكون أكثر فعالية في جذب الإستثمارات وتنشيط القطاع، بدل الاكتفاء بربط الأولوية بملفّ الكهرباء فقط".
السؤال الحقيقي: هل يملك لبنان أصلاً ثروة تجارية؟
بعيدًا عن السياسة، يُطرح اليوم سؤال جوهري: هل فعلاً يملك لبنان كميات تجارية من الغاز أو النفط القابلة للاستخراج والبيع؟ أم أن ما جرى منذ أكثر من عقد كان مجرّد فورة إعلامية مبنية على تقديرات غير مؤكّدة؟
الجواب العلمي لا يزال ضَبابيّاً. فباستثناء المسوحات الثنائية وثلاثية الأبعاد التي أُجريت قبل سنوات، لم تُنجز بعد عمليات حفر شاملة في أكثر من بلوك، كما لم يُستكمل تحليل كامل للعناصر الجيولوجية في الحقول اللبنانية، ما يجعل الحديث عن "ثروة نفطية" أقرب إلى التقديرات النظرية منها إلى الواقع المُثبت علمياً.
لكن، وبغض النظر عن حجم الثروة، تبقى الخلاصة واضحة: الدولة لم تقم بما يجب لتحريك الملفّ، سواء لجهة التشريعات، أو لجهة الإدارة الرشيدة، أو لجهة بناء الشفافية والثقة مع الشركات العالمية.
الخوف من تفويت الفرصة
في الوقت الذي يتخبّط فيه لبنان في أزماته، تتحرّك دول شرق المتوسط بسرعة قياسية. إسرائيل تُصدّر الغاز إلى أوروبا، ومصر تعزّز بنيتها التحتية، وقبرص وقّعت مؤخّراً اتفاقيات لنقل الغاز المسال، فيما اليونان وتركيا تخوضان سباق نفوذ على الممرّات البحرية.
لبنان، في المُقابل، يبدو وكأنه خارج المشهد، متروكٌ لقدره، ولأحلام مواطنيه التي تتآكلها الوقائع الصعبة. وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فليس مُستبعداً أن يُسجَّل مُستقبلًا في التقارير الدولية بأن لبنان فوّت فرصة تاريخية لاستخراج ثروته، بسبب خلافات سياسية ومُزايدات حزبية ونظرة ضيّقة لمفهوم السيادة والإستثمار.
من يملك القرار؟
في المُحصّلة، لا يكفي أن يكون للبنان ثروة بحرية مُحتملة، بل عليه أن يملك الإرادة الوطنية لاستثمارها. وهذه الإرادة لا تأتي إلا من قرار سيادي جامع، يتجاوز الخطوط الحمراء الطائفية والحزبية، ويضع المصلحة العامّة فوق الحسابات الصغيرة.
فإمّا أن يُبادر لبنان إلى تحويل البحر إلى مورد حياة، أو يبقى غارقاً في دوّامة الأزمات، مُنتظراً مُعجزة لا تأتي، وكنزاً لا يُكتشف.