جوي ب. حداد ـ خاص " إيست نيوز"
قبل خمس سنوات، عند تمام الساعة السادسة وسبع دقائق من مساء الرابع من آب، دوّى انفجار هائل في مرفأ بيروت، فحوّل العاصمة إلى مدينة منكوبة.
أكثر من 220 شهيداً، سبعة آلاف جريح، ودمار واسع طال آلاف الأبنية، في كارثة هي الأشدّ في تاريخ لبنان الحديث بعد الحرب الأهلية.
ومع ذلك، لم يُحاسب أحد حتى اليوم. لم تُحَدَّد المسؤوليات. لم يُحاكَم مسؤول. أما التحقيق العدلي، فبات أسير التعطيل والتجاذب والتهديد السياسي.
قاضٍ في وجه المنظومة
تسلّم القاضي طارق البيطار ملفّ التحقيق العدلي خلفاً للقاضي فادي صوّان، الذي أُقيل عام 2021 بعد ادعائه على وزراء سابقين. في "التشكيلات القضائية الجديدة"، أصبح البيطار رئيس محكمة الجنايات في بيروت، إضافة إلى وظيفته كمُحقّق عدلي في جريمة انفجار المرفأ. منذ البداية، واجه البيطار حملة ضغوط مُمنهجة، وصلت إلى حدّ التهديد المُباشر بالقتل، والتدخّل السياسي العلني لوقف مسار التحقيق.
في كانون الثاني 2023، استأنف البيطار عمله، متسلّحًا بتفسير قانوني اعتبره سابقة في الاجتهاد القضائي، وقرّر الادّعاء على شخصيات قضائية وأمنية، أبرزها النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات. الردّ جاءَ غير مسبوق: عويدات بادر إلى إطلاق سراح جميع الموقوفين، وادّعى على البيطار نفسه بتهمة "التمرّد على القضاء". ومنذ تلك اللحظة، دخل الملفّ نفقاً قضائياً مُظلماً لم يخرج منه بعد.
انهيار ثقة وشرخ داخل الجسم القضائي
التطوّرات الأخيرة عكست ما هو أعمق من تعطيل تحقيق. إنها أزمة بنيوية داخل السلطة القضائية، تظهر مدى هشاشة استقلالها أمام الضغط السياسي. القاضي البيطار بات عملياً عاجزاً عن مواصلة عمله، مع انقسام حادّ داخل الجسم القضائي نفسه، وغياب أي مرجعية عليا تبتّ الخلاف.
مصدر قضائي بارز، رفض الكشف عن اسمه، قالَ إن "تحقيق المرفأ تحوّل إلى فضيحة وطنية، لا لأن الانفجار وقع، بل لأننا لم نستطع حتى اليوم أن نُنجز العدالة فيه".
وأضافَ: "إذا كان قاضٍ لا يستطيع استدعاء وزير أو ضابط من دون أن يتعرض للتهديد، فكيف يُمكن الحديث عن قضاء مستقل؟".
شهادات المنظمات الدولية: انتهاك صارخ للعدالة
أمام هذا الواقع، لم تقف المُنظّمات الدولية مكتوفة الأيدي. فقد اعتبرت هيومن رايتس ووتش أن "التحقيق الوطني في انفجار مرفأ بيروت معطَّل، بفعل تدخّلات سياسية وتواطؤ قضائي"، مُشيرة إلى أن "ضحايا الانفجار ما زالوا ينتظرون العدالة فيما تحصّن السلطات اللبنانية المتورّطين خلف الحصانات والتأجيل".
بدورها، قالت مُنظّمة العفو الدولية إن "السلطات اللبنانية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق العدالة، وإن استمرار عرقلة التحقيق المحلي يُعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الضحايا وذويهم"، مُطالِبة بإنشاء بعثة تقصّي حقائق دولية تحت إشراف الأمم المتحدة.
وقد طالبت أكثر من 50 منظّمة محلية ودولية، من بينها "مبادرة العدالة لضحايا 4 آب"، بـ "تدويل الملف" و"نقل صلاحية التحقيق إلى هيئة دولية مستقلّة، في ظلّ عجز القضاء اللبناني عن الاستمرار".
ماذا عن الدولة؟ صمت وتواطؤ
في المُقابل، لم تُبدِ الدولة اللبنانية أي نية فعلية في تحريك الملفّ. لم يُعيَّن بديل للبيطار، ولم يُبتّ في قانونية إجراءاته، ولم تُصدر الحكومة موقفاً حاسماً في دعم التحقيق. حتى المجلس الأعلى للقضاء، التزم الصمت، تاركاً الملف يتآكل ببطء. وباتت السلطة كلها شريكة في طمس الحقيقة، من خلال الإهمال أو الصمت أو التحريض.
النائب العام غسان عويدات عاد إلى مُمارسة مهامه رغم كونه مُدّعى عليه. أما الموقوفون، فقد خرجوا جميعاً، باستثناء حفنة موظّفين إداريين لا حول لهم ولا سلطة.
العدالة على لسان الأهالي: لن ننسى
أهالي الضحايا ما زالوا، رغم الإحباط والغضب، يتحرّكون. لا أسبوع يمرّ دون اعتصام أو وقفة رمزية. يقول وليم نون، شقيق الشهيد جو نون: "نحن لم نطلب سوى أن يُحاسَب من كان يعلم بخطورة النيترات وسكت. هل هذا كثير؟". ويضيف: "لن ننسى. ولو بقي صوت واحد يطالب بالحقيقة، سنُبقي القضية حيّة".
شهادة من قلب الجرح: روكز تتحدث..
المُحامية سيسيل روكز، شقيقة الضحية جوزف روكز، قالت لـ "إيست نيوز": "كان لدى القاضي طارق البيطار خطة لاستئناف تحقيقاته منذ العام الماضي، بهدف إنهائها وإصدار قراره الاتهامي قبل 4 آب. لكن العدوان على لبنان حينها عطّل هذه المساعي. وفور انتهاء العدوان، عادَ البيطار ووجّه، في شباط 2025، تبليغات إلى جميع المعنيين الذين كان ينوي الاستماع إليهم، من ضبّاط في الأمن العام والجمارك والجيش وأمن الدولة، إضافة إلى شخصيات أمنية رفيعة ورئيس الحكومة السابق وعدد من القضاة والوزراء، وبينهم غسان عويدات وغازي زعيتر.
بدأ القاضي فعلاً باستدعاء هؤلاء تباعاً، وقد لبّى معظمهم الإستدعاء باستثناء غازي زعيتر وغسان عويدات، وهما من الشخصيات التي سبق أن شاركت في عرقلة التحقيق. وغسان عويدات تحديداً، سبق أن أطلق سراح جميع الموقوفين بطريقة غير قانونية، رغم كونه قاضياً يُفترض أن يكون عارفاً بتفاصيل القانون، لكنه مارس كل أشكال الانحرافات القانونية في هذا الملف.
وبما أن هؤلاء تبلّغوا وفق أصول المحاكمات الجزائية ولم يحضروا، فإن القاضي اعتبرهم متخلّفين عن الحضور وسيتخذ بحقهم الإجراءات المُناسبة عند الانتهاء من التحقيقات.
برأيي، القاضي البيطار بذل جهداً كبيراً، وحرص على الالتزام بالأصول القانونية. وكلما اصطدم بعرقلة كان يجد حلاً يتماشى مع القانون. وآخر مثال، عندما منع غسان عويدات الدكتورة عطية من التعاون مع القاضي البيطار، عمد الأخير إلى اعتماد استراتيجية تُمكّنه من استكمال التحقيق رغم هذا المنع، وقرر أن يستكمل إجراءاته إلى حين اتخاذ القرار الاتهامي بحق كل من لم يُمثُل أمامه.
هذا الملفّ عرقلته السلطة السياسية بوقاحة، وبشكل خاص حزب الله، الذي مارس التهديد العلني وتدخّل مراراً لعرقلة مسار العدالة. كما استُخدم حق الدفاع بتعسف لتأخير الإجراءات.
نحن كعائلات الضحايا، لن نتراجع. سنواصل النضال حتى النهاية، لأن هذا واجب على الدولة، لا مجرّد أمل. واجبها أن تُظهر الحقيقة وتُحاسب المسؤولين عن هذا الجُرم، حيث تم تخزين مواد خطرة بطريقة غير قانونية ومخالفة لكل المعايير الدولية، ما أدى إلى كارثة كبرى ومقتل المئات ودمار المدينة. وإن لم تتحقّق العدالة في هذا الملف، فإننا نُعلن انتهاء العدالة في لبنان. لا يجوز أن يسود منطق "عفا الله عما مضى".
وأضافت روكز: "جوزف، شقيقي، كان أصغر مني سناً. لا يمكننا أن نسكت، ولا يمكن لأحد من أهالي الضحايا أن يغضّ الطرف عن الذي حصل. شقيقي كان في عمله، وآخرون كانوا في بيوتهم، وهناك من قُطع رأسه على الطريق أمام أولاده، ومن دخل الزجاج في رقبته أمام ذويه. الأشلاء التي سقطت في المرفأ ليست تفاصيل قابلة للنسيان. لم يكن الضحايا في معركة، ولا في حالة دفاع عن النفس أو عن الوطن. لذلك لا يمكننا أن نسكت بسبب مسؤولين فاسدين أهملوا مرفأ بيروت. علينا أن نُحاسب ونُعاقب كل مُرتكب. العدالة هي الرادع الوحيد للجريمة، وهذا ما نسعى إليه".
4 آب: جرح وطن لا يندمل
كارثة 4 آب ليست حدثاً مرّ وانتهى. إنها جريمة دولة بكل المقاييس. الجريمة وقعت، الشهود معروفون، والمسؤولون معروفون، لكن المُحاسبة غائبة. وما دام القضاء مُكبّلاً، ستبقى الحقيقة رهينة، والعدالة مؤجّلة، والثقة مفقودة.
وإلى أن تتحرّر العدالة من قبضة السياسة، سيظلّ الرابع من آب موعداً مع الغصّة، ومع ضمير وطن لم يدفن ضحاياه فقط، بل دفن معهم الأمل في دولة تحترم أبناءها وتحميهم من خياناتها المُتكرّرة.