عاجل:

ثمانون الجيش اللبناني... جيش المعموديات الثلاث

  • ٨٨

خاص ـ "ايست نيوز"

بقلم نقيب محرري الصحافة اللبنانية جوزف القصيفي

مر الجيش اللبناني منذ تأسيسه بمخاض كبير، وواجه تحديات جساما، وامتحانات صعبة، كان يخرج منها اصلب عودا، واكثر نضجا، وقدرة على التكيف مع المتغيرات. وكان الامتحان الاقسى عندما تشرذم إلى مجموعة من الجيوش الصغيرة التي توزعت حزبيا ومناطقيا بعيد انطلاق حرب السنتين وبلغت ذروتها في العام 1976، لاسيما بعد الانقلاب الذي قاده العميد عزيز الاحدب قائد منطقة بيروت العسكرية فترتذاك، يوم الاثنين في الحادي عشر من آذار 1976، والذي وصف بالانقلاب التلفزيوني الذي لم يعمر طويلا، وهو الانقلاب الأول من نوعه في لبنان، بعد محاولة انقلابية فاشلة للحزب السوري القومي الاجتماعي بالاشتراك مع مجموعة من الضباط والرتباء والعناصر منتصف ليل 1960- 1961.

وكان واضحا أن بصمات ياسر عرفات غير المباشرة كانت وراء هذه " الكوميديا" التي لم تعمر طويلا والتي سرعان ما دخل " بطلها" عالم النسيان. هذه الحركة - على هزالتها - فتحت الباب واسعا أمام نشؤ تجمعات عسكرية طائفية ومناطقية من رحم الجيش كانت سندا وعونا لامراء الحرب جميعا. على أن أخطر ما شاب "حرب السنتين" هو الانشقاق الذي قاده الملازم اول أحمد الخطيب الذي أعلن إنطلاق "جيش لبنان العربي" وتمكن بفعل الاستقطاب الطائفي لعدد كبير من أفراد القوى المسلحة الشرعية من السيطرة على معظم ثكن ومواقع الجيش اللبناني النظامي في الجنوب والبقاع والشمال والجبل وبيروت، معلنا رفضه الانصياع لاوامر القيادة في اليرزة، واستولى على مخازن الأسلحة.

وهذه الخطوة قادت في ما بعد إلى نشؤ الجيش الشعبي في الجبل بإشراف ضباط ورتباء رفضوا الالتحاق بالجيش، و" طلائع الجيش اللبناني" بقيادة العقيد فهيم الحاج الذي كان على تنسيق تام مع المؤسسة العسكرية عبر قيادة الجيش، على غرار ألوية ووحدات الجيش في الشطر الشرقي من العاصمة وبعض الجبل وثكنة مرجعيون التي ظل ولاؤها معقودا لليرزه.

وبعد انتهاء حرب السنتين وتسلم الرئيس إلياس سركيس مهماته الدستورية خلفا لسلفه الرئيس سليمان فرنجيه، كان الشغل الشاغل منصبا على أعادة اللحمة للجيش، فبذل قائده الجديد العماد فيكتور خوري جهدا كبيرا لهذا الغرض، رغم ضعف الامكانات واستمرار قوى الأمر الواقع في الإمساك بالارض في جميع المناطق. أقام معسكرات إعادة تأهيل للجنود الخارجين من أتون الحرب التي بدلت في قناعات الكثيرين منهم، واضعفت صلاتهم بالشرعية .وكانت دروس مكثفة في التوجيه الوطني. وتميزت هذه المعسكرات بأنها كانت مختلطة تضم جنودا من كل المناطق والطوائف، ما ساعد كثيرا على سد الثغر وردم الفجوة.

كانت تجربة العماد خوري محاطا بنخبة من الضباط ذوي الاختصاص والخبرة، ناجحة، بدليل أن لا الاجتياح الاسرائيلي الأول للبنان العام 1978، ولا الثاني العام 1982، وبروز " جيش لبنان الجنوبي" كيانا عسكريا قائما بذاته، ولا الحوادث التي كان يتعرض لها ضباطه، رتباؤه وافراده في الحل والترحال على يد عناصر "الميليشيات" في جميع أنحاء لبنان، تمكنوا من خلخلته واعادته إلى الحال التي كان عليها في حرب السنتين.

 لكن لم يلبث أن انقلب هذا المشهد إلى عكسه مع إختلال التوازنات الدولية والاقليمية، فكان السادس من شباط 1984 وتوزع الجيش إلى ألوية مذهبية- وليس طائفية فحسب، في عهد الرئيس السابق أمين الجميل، وإبان قيادة العماد أبراهيم طنوس، لكن ارتباطا واهيا ظل قائما بين قيادات هذه الالوية واليرزة.

وعلى رغم إختيار مجلس الوزراء مجتمعا للعماد ميشال عون لخلافة طنوس، فان الوضع داخل المؤسسة سجل تحسنا بطيئا، ولم يلبث أن عاد إلى المربع الأول مع تسمية الرئيس الجميل العماد عون رئيسا للحكومة الانتقالية بعد تعثر إنتخاب رئيس جديد يخلفه بالطريقة المألوفة. فتبع رفض الرئيس سليم الحص لهذا الاجراء، تعيين قيادة أخرى للجيش في المناطق اللبنانية الواقعة في نطاق نفوذ القوات السورية برئاسة اللواء سامي الخطيب. واعقب ذلك سلسلة من التطورات الدرامية : " حرب التحرير"، " حرب الالغاء"، إنهاء تمرد العماد ميشال عون الذي رفض الاعتراف ب" إتفاق الطائف".

هذه التطورات اصابت الجيش بتصدعات كبيرة وخطرة وخلفت ذيولا ،اجتهدت القيادات المتعاقبة عليه منذ العام 1990 على معالجة ذيولها والتصدي لاسبابها واستئصالها، بغرض بناء جيش عصري، يكون الولاء فيه للوطن، واضح العقيدة جليها بالنسبة للدفاع عن وحدة لبنان واستقلاله وسلمه الاهلي واستقراره، واعتبار إسرائيل العدو الرئيس لوطن الارز لأنها غاصبة حقوق، وصاحبة اطماع، ومثيرة فتن، والساعية إلى تقسيم الدول المحيطة بها إلى " كانتونات" اثنية ومذهبية تتناحر وتتقاتل، وتتحالف وتنقلب على تحالفاتها لتبقى لهذا الكيان الغاصب اليد العليا في تقرير مصير المنطقة.

إن الجيش اللبناني هو من مؤسسات الوطن الأكثر تمثيلا له لضمه المروحة الاوسع من الشرائح المناطقية والاجتماعية والطائفية، المنخرطة فيه والتي لا تملك مشروعا الا مشروع الدولة الحديثة، العادلة، المقتدرة التي يفيء إليها ابناؤها. وأن هذا الجيش بمؤسساته يجب أن يكون عنصرا رئيسا في عملية التنمية في لبنان،والى جانب شعبه كونه الادرى بنبض الشارع واتجاهاته، والاقدر على رصد تطلعات المواطنين والوقوف على معاناتهم.

يظلم الجيش عندما يحمله الناس في لحظات اليأس، ما لا طاقة له على إحتماله، خصوصا عندما يطلب منه أن يضرب بيد من حديد، وأن يبادر إلى تقويم ما إعوج. لكن في الحقيقة الجيش اللبناني هو جيش نظامي يخضع لقرار السلطة الاجرائية وينفذ سياستها العسكرية في حقلي الدفاع والامن. اي انه ليس جيشا انقلابيا. هذه مقولة لا تسري في بلد تعددي كلبنان ينتهج الديموقراطية التوافقية ايا تكن عللها وثغرها. على أن الجيش خطا خطوات واسعة نحو بلورة هويته الوطنية العابرة للطوائف والمناطق رغم العراقيل والمعوقات. وهو دفع غاليا ثمن الدور الصعب الذي أداه ويؤديه اليوم وفي مراحل معينة من تاريخ لبنان: 1948، 1952، 1958، 1969، 1973، 1975- 1976، ومن 1978 إلى العام 1990.من دون أن ننسى التضحيات التي تكبدها في مواجهة العدو الاسرائيلي منذ "عناقيد الغضب " في الثامن عشر من نيسان 1996 إلى تاريخ إعلان وقف النار إبان الحرب الأخيرة 27 تشرين الثاني 2024، مرورا بحرب تموز 2006، ولا يزال الجرح مفتوحا على مزيد من النزف.

إن الجيش اللبناني عبر تاريخه كان دائم التنقل بين معموديات ثلاث: معمودية النار ، معمودية الدم ، معمودية الشهادة . وهو في نهاية المطاف وقبله جيش الوطن الذي يقوم على الشرف والتضحية والوفاء.


المنشورات ذات الصلة