عاجل:

ماكرون يرفع "كارت فلسطين"... خطوة فرنسية في طور التفاعل ورسائل في اكثر من اتجاه (خاص)

  • ٧٠

 خاص ـ "ايست نيوز" 

في خطوة مُفاجئة وصادمة في آن، أعلنَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نيّته الإعتراف رسمياً بدولة فلسطين، مُعلناً عن ذلك بانه سيكون خلال خطابٍ لهُ أمام الجمعية العامّة للأُمم المتّحدة المزمع عقدها في دورتها السنوية العادية المقبلة في أيلول المُقبل. هذا الإعلان لم يكن مُجرّد تعبير رمزي عن التضامن مع القضية الفلسطينية، بل يُعدّ تحوّلاً استراتيجياً في السياسة الخارجية الفرنسية تجاه ملفّ الشرق الأوسط، ويفتح أبواب نقاش عميقة حول أبعاده وتداعياته على المسرح الدولي والإقليمي.

الإعتراف الدولي وأصوله القانونية

الاعتراف بدولة هو من صلب السيادة الوطنية للدول، ويأتي بناءً على اعتبارات سياسية واقتصادية وديبلوماسية. فرنسا تستند في موقفها إلى قرارات الأمم المتّحدة المُتعلّقة بحلّ الدولتين، خصوصاً القرارات 242 و338 اللتين تشكلان الركيزة الأساسية لأية تسوية عادلة في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. هذا الإعتراف يأتي في وقت حساس للغاية، حيث تستعر الحرب في غزّة، ويشهد الملفّ الفلسطيني تعقيدات مُتزايدة بسبب الإنقسامات الداخلية الفلسطينية والاحتلال المُستمرّ.

وباعتراف مراجع ديبلوماسية قالت لـ "إيست نيوز" انها تنظر إلى هذا القرار من بعيون باريسية كرسالة دولية واضحة لإسرائيل، مَفادها أن سياسة الأمر الواقع المبنية على القوة العسكرية لن تمر من دون مساءلة، وأن المجتمع الدولي، مُمثلاً بدول كبرى مثل فرنسا، لم يعد يكتفي بالمواقف الرمزية بل يتجه إلى خطوات عملية لإعادة التوازن السياسي.

المواقف الأميركية والإسرائيلية: غضب وتجاهل

وقبل ان يجف حبر رسالة ماكرون الى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ردّت واشنطن على خطوته، بردّ فعل حادّ ومتوتّر، حيث عبّر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن رفض الولايات المتّحدة الكامل لهذا القرار، واصفاً إيّاه بأنّه "قرار متهوّر يعرقل جهود السلام في المنطقة"، مؤكّداً أن واشنطن تفضّل حلّ النزاع من خلال المُفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية". ويُنظر إلى الموقف الأميركي الحالي أيضاً في سياق التناقضات داخل المؤسّسة السياسية الأميركية، إذ أنّ الرئيس دونالد ترامب كان قد سعى قبل انتخابه رئيساً خلفاً لبايدن إلى تسويات شرق أوسطية كُبرى، واضعاً نصب عينيه جائزة نوبل للسلام، بما قد يُربك أي جهود أوروبية موازية أو مُتناقضة مع الرؤية الترامبية. وعلى الصعيد الإسرائيلي، أظهرَ وزير شؤون الشتات عميخاي شيكلي موقفاً استهزائياً واضحاً، حيث أعادَ نشر مقطع فيديو قديم يُظهر الرئيس ماكرون في مَشهد شخصي ساخر، مُعّلقاً: "أيها الرئيس ماكرون، بإسم الحكومة الإسرائيلية، هذا هو ردّنا على اعترافكم بدولة فلسطينية"، ما يعكس التوتّر والرفض الرسمي الإسرائيلي لهذه الخطوة.

إنعكاسات القرار الفرنسي على ميزان القوى

في حديث خاصّ لموقع "ايست نيوز" أكّدَ الخبير الاستراتيجي العميد الركن المُتقاعد فادي داود، أنّ هذه الخطوة تمثّل أول اعتراف رسمي من دولة عضو في مجموعة السبع، وهو ما يعزّز الزخم الدبلوماسي الدولي لإحياء حل الدولتين ويخلق ضغطاً غير مُباشر على الدول الغربية الأخرى مثل بريطانيا وكندا للحذو حذو باريس. 

وأوضح داود أن فرنسا قد تستخدم هذا الاعتراف لتقديم مُبادرة جديدة على مُستوى الأمم المتحدة، حيث من المتوقّع أن يتمّ تقديم مشروع قرار سياسي رمزي يقرّ بدولة فلسطين على حدود عام 1967، مع التأكيد على ضرورة نزع سلاح حماس وتوحيد البيت الفلسطيني.

ويرى داود أن هذا القرار يضع دول المنطقة أمام واقع جديد قد يدفع باتجاه تنسيق عربي أوسع خلال القمة العربية المقبلة، رغم الخشية من تعقيدات الانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. وقسّم داود تداعيات القرار إلى مراحل زمنية مُختلفة، تبدأ بتعزيز الحضور الدولي للقضية الفلسطينية في الأشهر الثلاثة الأولى، وتنتقل إلى إجراءات مدنية وإدارية لللاجئين الفلسطينيين على المدى القصير، وصولًا إلى اعترافات دولية أوسع وفتح سفارات فلسطينية في المستقبل.

محاولة لـ "التمايز الأوروبي"

من جهته، أشارَ الخبير في القانون الدولي العميد الركن المتقاعد حسن جوني في قراءة خص بها موقع "ايست نيوز": إلى "أنّ فرنسا تسعى، إلى جانب دول أوروبية أخرى، إلى التمايز عن الموقف الأميركي التقليدي، خاصّة في ظل تنسيق أوروبي موسّع حول القضية الفلسطينية". لكنه حذّر "من صعوبات التنفيذ على الأرض في ظلّ السيطرة الأميركية والإسرائيلية المتواصلة على موازين القوى ورفض تل أبيب تقديم تنازلات جوهرية".

المواقف الدولية المُتباينة

وفي المنحى الدولي للموقف الفرنسي، لوحظ ان دولا أوروبية عدة مثل إيرلندا والنرويج انضمّت إلى اعترافات مشابهة سابقًا، ذلك ان موقف الرئيس الفرنسي يُعتبر إعلان دولة أكثر تأثيراً كونه صادراً من رئيس دولة عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وفاعلاً تاريخياً في الملفّ الفلسطيني - اللبناني. فيما لم تصدر روسيا أو الصين مواقف رسمية حتى الآن، لكن خُبراء دبلوماسيين يتوقّعون دعمهما لمُبادرات مُماثلة، خاصة أن روسيا اعترفت بدولة فلسطين منذ عام 1988، والصين تعلن دعمها لحل الدولتين وفقاً لحدود 1967.

لبنان وفلسطينيو الشتات: تداعيات حساسة

وعلى هامش النقاش حول "اعتراف" ماكرون بالدولة الفلسطينية يعطي الوجود الفلسطيني في لبنان أبعادًا ديمغرافية وسياسية مُعقّدة، مما يجعله بمثابة تحوّل يستدعي التوقّف عنده في الداخل اللبناني. ففرنسا، التي تُعدّ من رعاة اتفاق الطائف وضامنة الاستقرار اللبناني، قد تستخدم هذا الاعتراف للضغط من أجل تحسين أوضاع الفلسطينيين في لبنان، خصوصًا في حقوق الإقامة والعمل.

لكن في الوقت نفسه، قد يُثير القرار مخاوف من توطين "مقنع" وغير رسمي للفلسطينيين في لبنان، وهو أمر حساس للغاية في السياق اللبناني، حيث يخشى كثيرون من تغيّر المُعادلات الديمغرافية والسياسية. وفي هذا السياق، يتوقّع المُراقبون أن تتخذ السلطات اللبنانية مواقف متوازنة، تجمع بين دعم حق العودة الفلسطيني وضرورة توفير الحدّ الأدنى من الحقوق الإنسانية للاجئين في لبنان.

في المُحصّلة، يُعد اعتراف فرنسا بدولة فلسطين محطة سياسية ودبلوماسية هامّة، قد تؤسّس لمرحلة جديدة من التحوّلات في الملف الفلسطيني - الإسرائيلي. هذا القرار يضع باريس في موقع لاعب دولي مستقل في الشرق الأوسط، وقد يعيد رسم ملامح التحالفات الإقليمية والدولية. وقد لا تكون فرنسا الأخيرة، إذا ما استشعرت عواصم القرار الغربي ضرورة إعادة تصويب البوصلة تجاه حقوق الشعوب.

لكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستُترجم هذه الخطوة إلى واقع ملموس على الأرض، يُعيد الأمل لشعب فلسطيني عانى عقوداً من الاحتلال والشتات، أم ستبقى ورقة ضغط سياسية تُستخدم في خضم المصالح المُتضاربة؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالكشف عن مدى عمق تأثير هذه المُبادرة، ومدى قدرتها على إحداث تغيير حقيقي ومُستدام في مُعادلة الشرق الأوسط.

المنشورات ذات الصلة