خاص - "ايست نيوز"
في مشهد يتكرر فيه عجز الدولة ويتجسد فيه تفكك السلطة بين تواطؤ مستتر وصمت مريب، أقدمت الحكومة اللبنانية على فصل مشروع “إعادة هيكلة المصارف” عن “مشروع قانون معالجة الفجوة المالية”، لتعلّق تنفيذ الأول على ولادة الثاني، الذي لم يرَ النور بعد. خطوة لا توصف إلا بـ”التهرّب التشريعي”، وهي بمثابة طلقة رحمة على ما تبقى من أحلام المودعين، الذين ما عادوا يملكون من ودائعهم إلا الصبر… والغضب.
لم يكن هذا الربط بريئًا، ولا هو مدروس وفق منظومة إصلاحية حقيقية. بل جاء كحصن وقائي لحماية المصارف من المحاسبة، وردّ أي محاولة لتحميلها قسطها العادل من الكارثة. الحكومة تقول إنها تحتاج إلى تحديد كيفية توزيع الخسائر المالية قبل الشروع في الهيكلة، وإنّ قانون الفجوة المالية هو الخطوة الأولى على درب الإصلاح. لكنها في الواقع، لم تقدّم هذا القانون، ولا حدّدت جدوله الزمني، ولا وضعت أرقامًا دقيقة للخسائر، ولا آليات موضوعية لتحديد المسؤوليات.
فأي منطق هذا الذي يجمّد قانونًا جاهزًا بانتظار قانون غائب؟! وأي عدالة تلك التي تُعطّل باسم الترتيب التقني؟!
إنّ هذه المقاربة التشريعية المشبوهة ليست سوى غطاء لتأجيل استحقاق توزيع الخسائر المالية، ولحماية منظومة مصرفية نَهبت ودائع الناس، وراكمت الأرباح على حساب أموال الفقراء والمتقاعدين والمغتربين. وما تعليق تنفيذ القانون سوى تواطؤ علني بين أهل الحكم – في المجلسين الحكومي والنيابي – لضمان مرور الزمن، وتضييع الحقيقة، وتبديد الحقوق.
المسؤولون أنفسهم الذين يروّجون لهذا الربط، هم من أغرق البلاد في ديون بلا سقف، وأداروا الظهر لصيحات المودعين، وتفرّجوا على سقوط الليرة، وذوبان الرواتب، وإفلاس المؤسسات. ثم يأتون اليوم ليطلبوا مهلة جديدة… وكأنّ السنوات الخمس الماضية لم تكن كافية لابتكار كل الحيل الممكنة لسرقة الشعب.
في هذا السياق، يصبح السؤال المشروع: ماذا لو لم يُقرّ قانون الفجوة المالية؟ هل يبقى قانون الهيكلة معلّقًا إلى الأبد؟ هل تُترك المصارف تواصل عملها بلا حسيب أو رقيب؟ وهل يُدفن مشروع الإصلاح الحقيقي في مقبرة الوقت اللبناني المعتاد؟!
النتيجة واحدة: إذا لم يُقر قانون الفجوة بوضوح وشفافية، فإن أموال المودعين في مهبّ الريح. لن تُسترد الودائع، ولن تُوزّع الخسائر بعدالة، وسيُترك النظام المصرفي في حالة “موت سريري” يجرّ الاقتصاد إلى هاوية أعمق. أما الدولة، فستتذرّع بالعجز والظروف، بينما تتواطأ مع شبكات النفوذ المالي لتطيير الحقيقة والعدالة معًا.
ما يحصل ليس سهوًا إداريًا ولا خطأ تقنيًا، بل هو جريمة مؤسساتية ترتكب بسبق الإصرار والتشريع. فالمشرّعون الذين قبلوا إدراج مادة في مشروع القانون تُعلق تطبيقه ربطًا بقانون آخر لم يُكتب بعد، يعلمون جيدًا أنّهم يفرغون النص من مضمونه، ويمنحون المصارف فرصة ذهبية للهروب من المحاسبة. والمصارف، من جهتها، تُراكم النفوذ وتُفعّل اللوبيات وتضغط لإعادة كتابة قواعد اللعبة على قياس مصالحها، غير آبهة بما حلّ بالبلاد والعباد.
وها هي فرنسا، التي لطالما وقفت إلى جانب لبنان، تعيد تأكيد موقفها مجددًا، لكن بشروط واضحة لا لبس فيها. ففي البيان المشترك الصادر عن قصر الإليزيه عقب لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، عبّرت باريس عن دعمها الثابت للبنان، لكن دعمًا مشروطًا بالإصلاح لا بالنيات، وبأفعال لا أقوال.
ماكرون لم يكتفِ بالترحيب، بل ربط بشكل صريح أي دعم دولي أو مؤتمر مرتقب لمساعدة لبنان – وهو قيد التحضير من الجانب الفرنسي – بإقرار القوانين الإصلاحية الجوهرية، وفي مقدّمها قانونا إصلاح القطاع المصرفي وإعادة هيكلة القضاء، بالتوازي مع تقدّم في التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
إنه إنذار ناعم… لكنه بالغ الوضوح.
فلا مال من الخارج قبل تنظيف الداخل. ولا منصة دعم دولي قبل أن يَظهر للبنانيين والعالم أن الحكومة قادرة على اجتراح قرارات سيادية فعلية، لا مراوغات تشريعية تنتهي بتجميد القوانين أو تفخيخها في لجان البرلمان.
المفارقة أنّ هذا التواطؤ يُسوّق له على أنه «حكمة» سياسية و«واقعية» مالية. في حين أنه لا يتعدى كونه تواطؤًا رخيصًا بين السلطة والمال، يُمَرّر بصمت نيابي، وتواطؤ حكومي، وخضوع طوعي لشروط صندوق النقد، دون أي التزام بحماية المجتمع والحد الأدنى من الإنصاف.
فلنسأل بجرأة: من يضمن أن لا يتم استخدام هذا “التعليق القانوني” كأداة لتمرير الوقت وقتل المسار الإصلاحي؟ من يمنع أن يتحوّل هذا الفراغ إلى منصة لتصفية الودائع أو شطبها جزئيًا باسم «المعالجات الواقعية»؟ من يحاسب إذا ما ثبت أن الفصل بين القانونين ليس سوى خدعة تشريعية لحماية منظومة النهب؟
لقد سُرقت البلاد باسم “الهندسات المالية”، وضُحك على الناس باسم “تحرير سعر الصرف”، واليوم تُبرمج سرقة ما تبقّى من الودائع باسم “إصلاح مصرفي معلّق”. إنها جريمة جديدة، ولكن هذه المرة، مقوننة، مختومة بختم الجمهورية.
المطلوب اليوم ليس مجرد إقرار قانون، بل إعلان ثورة تشريعية حقيقية تضع الحقوق قبل التسويات، والعدالة قبل مصالح اللوبيات، والمحاسبة قبل إعادة تدوير المنظومة. فالمودعون ليسوا قطيعًا، ولا المصارف دولة فوق الدولة، ولا القانون مطية تُفرّغ من مضمونها تحت شعار “التدرّج في الإصلاح”.
إن لم تقر القوانين معًا، وبوضوح، وبآليات ملزمة، فلا معنى لأي إصلاح. وإن بقي هذا التواطؤ الصامت بين المجلسين قائمًا، فإن التاريخ سيكتب أن الدولة في لبنان وقّعت، مرّة جديدة، على صك إفلاسها الأخلاقي… وأنها باعت مواطنيها بأبخس الأثمان.