لم يسلك تسليم السلاح الفلسطيني للدولة اللبنانية المسار الذي اتُّفق عليه مع الأجهزة الأمنية اللبنانية.
سقطت المهل التي أُعلِن عنها سابقاً، بعد تأجيل تنفيذ المرحلة الأولى التي حدّدتها سلطة رام الله منتصف الشهر الماضي، لتسليم سلاح مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة ومار الياس، لأن «الملف شائك ومعقّد»، علماً أن طلب تجميد الإجراءات جاء من سلطة رام الله نفسها.
وكان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد فاجأ المسؤولين اللبنانيين، أثناء زيارته لبيروت في أيار الماضي، بمبادرته إلى طرح هذا الملف في خطوة بدت مدفوعة من أطراف خارجية، ولا تخرج عن السياق الإقليمي لترتيب المنطقة في ضوء الحروب الإسرائيلية المفتوحة، والتي تستهدف في لبنان، نزع سلاح المقاومة.
وتبدو سلطة عباس منخرطة في النظام الجديد الذي تنسجه أميركا، الذي يهدف إلى استنساخ نموذج رام الله في مخيمات لبنان وتكوين فريق جديد يهندسه نائب رئيس السلطة حسين الشيخ بما يُخضِع المخيمات لسلطة عباس مباشرة، وتحويلها إلى بؤر للمخابرات الإسرائيلية.
لم تكن رحلة «أبو مازن» إلى لبنان مجرد جولة روتينية، ولا مرتبطة حصراً بتسليم السلاح الفلسطيني للدولة اللبنانية.
فهو، قبلَ أن يأتي، لم يكن أحد قد طرح مسألة نزع السلاح الفلسطيني بشكل جدّي، لعلم كلّ الجهات، بدقّة وخطورة وحساسية هذا الملف.
وللمفارقة، فإن عباس نفسه هو الذي وضعَ الملف على الطاولة، وورّط الدولة اللبنانية فيه قبلَ أن يتحوّل إلى إعلان نوايا خلقَ صدى واسع النطاق، سياسياً وأمنياً داخل فتح نفسها التي يتوسّع فيها الخلاف، حيث ظهر أن هدف عباس الحالي، هو «إعادة ترتيب البيت الفتحاوي»، خصوصاً أن أركان الحركة في لبنان لم يتجاوبوا مع مطالب عباس، والذي تعرّض ولا يزال لانتقاد كبير من قيادات الحركة.
وتتوالى التطورات المرتبطة بهذا الملف حيث توسّع الخلاف بين قيادة فتح في لبنان والسلطة الفلسطينية في لبنان، خصوصاً بعدما أشهر السفير أشرف دبّور رفضه وقيادة ساحة لبنان المضي قدماً بتنفيذ مشروع سحب السلاح الفلسطيني، الأمر الذي ردّت عليه سلطة رام الله بجملة من التغييرات في صفوف حركة فتح في لبنان، طاولت دبّور (إعفاؤه من مسؤوليته كنائب للمشرف على السّاحة ونقله من موقعه كسفير في لبنان، وتعيين محمد الأسعد مكانه)، إلى جانب تغييرات تنظيمية أخرى.
فيما يتواصل العمل على تغييرات إضافية يُرجّح أن تشمل كل قيادة الساحة وجهاز الأمن الوطني، والذي أصبحت قيادته تتبع مباشرة لرام الله، وذلك بهدف الإمساك بتنظيم حركة فتح والسفارة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، عبر تعيين أشخاص تابعين لرام الله وينفّذون الأوامر دون اعتراض، تمهيداً للإمساك بالقرار الفلسطيني في لبنان.
وكشفت مصادر لـ«الأخبار» أن «لجنة كبيرة، تتفرّع منها أربع لجان، أمنية وعسكرية وتنظيمية ومالية وصلت إلى بيروت منذ أسبوعين، وتتخذ من فندق «الموفيمنبك» مقراً لإقامتها، وهي برئاسة اللواء العبد إبراهيم عبد السلام خليل (المعروف بالعبد)، والذي يشغل منصب قائد قوات الأمن الوطني والضابط المسؤول عن التنسيق مباشرة مع إسرائيل.
وهو أمر أثار قلق مسؤولين في الدولة اللبنانية التي بدأت تتلمّس مشروعاً كبيراً يتضمن إعادة تشكيل أمن وطني في لبنان مرتبط مباشرة برام الله من خلال مسؤول التنسيق، لا عبر قيادة الساحة اللبنانية».
وكشفت المصادر أن «الأيام الماضية شهدت توتراً كبيراً، بدأ منذ مغادرة «أبو مازن» وهو آخذ في الاتساع بعدَ أن اعتبرت رام الله أنّ دبور وفتحي أبو العردات أمين سر حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وغيرهما من القيادات على الأرض يرفضون تنفيذ الأوامر، وبدأت الإجراءات بعزل دبور ومنع عزام الأحمد من المجيء إلى لبنان قبل إرسال اللجان».
وقد تعزّز الخلاف، بعدما رفض قياديون كثر طلبات اللجان الحضور إلى مقابلتهم في الفندق البحري، وردّت القيادات بأن على أعضاء اللجنة زيارتهم في المخيمات وليس العكس.
في هذا الوقت، فتحت رامَ الله باباً للتفاوض مع دبور، علماً أن أحد أسباب الخلاف، هو أن دبور، بادر إلى التواصل مع القصر الجمهوري بعد انتخاب الرئيس جوزيف عون، ما أثار حفيظة عباس الذي طالبه بمشاورته قبل أي خطوة، لكنّ دبور ردّ بأنه أطلع الجهات المختصة في رام الله على ما يقوم به، ما دلّ على بداية صراع بين عباس ونائبه حسين الشيخ الذي كان اعترض على تعيين سفير من فريق عباس، وتوصّل معه إلى اسم محمد الأسعد كتسوية.
وبحسب مصادر قالت إن «أبو مازن أكّد لدبور أن ما يحصل لا يستهدفه شخصياً، لكنّ هناك قراراً كبيراً يجب أن تتجاوب معه». وعرض أبو مازن على دبور نقله من لبنان عبر المناقلات الدبلوماسية التي ستحصل، مقدّماً له أربع وجهات للسفر إليها: إسبانيا، تركيا، مصر وعُمان. حتى إنه وصلَ معه الى تحديد البلد الذي يريد السفر إليه، وتعهّد بنقل السفير الموجود إلى بلد آخر، قبلَ أن يوافق دبور على نقله إلى عُمان. ومن الإجراءات التي حصلت على الأرض، استدعاء عدد من القيادات الفتحاوية وتوجيه تهديدات ضمنية لها من قبل اللجنة الآتية من المقاطعة، فضلاً عن وضع حوالي 250 مسلحاً فلسطينياً كانوا تابعين لقيادة فتح في بيروت تحتَ إشراف صبحي أبو العرب.
وبحسب ما هو رائج في مخيمات بيروت، فإن اللجان التي تعمل الآن، ركّزت على إبعاد كل من العميد منير المقدح عن منصبه كقائد عسكري، وإحالة صبحي أبو العرب إلى التقاعد، وإعفاء فتحي أبو العردات من مسؤولية الشق السياسي في تنظيم فتح في لبنان.
إضافة إلى إقالة وإعفاء عدد كبير من الكوادر، مع إطلاق حملة «تنقيح» لقوائم المنتسبين إلى أجهزة السلطة وفتح، والذين يتقاضون رواتب شهرية تُرسل من رام الله.
وبحسب مصادر مطّلعة في حركة فتح، فإن ما يفعله أبو مازن، لن يؤدي إلى ترتيب البيت الفتحاوي ولا إلى تنظيم وضع السلاح، بل سيأخذ الواقع الفلسطيني إلى مكان آخر أشد خطورة في لحظة يواجه فيها الفلسطينيون واللبنانيون معاً خطراً وجودياً.
كل هذه التطورات وضعت السلطات في لبنان أمام تحديات كبيرة، وسط مخاوف، من كون نجاح مشروع أبو مازن «قد يقود إلى خطوات تخدم المشروع الإسرائيلي، سواء على صعيد إحداث فتنة داخل المخيمات نفسها، أو القيام بتوترات مع محيطها.
كما يوجد في لبنان من يخشى أن يؤدي الإمساك بالقرار الفلسطيني في لبنان من قبل سلطة رام الله، وتكريسها كمرجعية وحيدة، إلى تعزيز حظوظ المشاريع المشبوهة التي لا يمكن تنفيذها إلا من خلال افتعال مواجهات أمنية وعسكرية مع فصائل فلسطينية أهمها «حماس»، وذلك بأوامر خارجية، أو افتعال أحداث مسلحة داخل المخيمات لتبرير سحب السلاح بالقوة وإلغاء العمل الفلسطيني المشترك، وهو ما سيساهم في تكريس مشروع شطب حق العودة وقضية اللاجئين تمهيداً لفرض التوطين»!