عاجل:

“راجع يتعمر لبنان؟ لكن من يمنع ذلك؟ (آراء حرة)

  • ١٣

بقلم عصام شلهوب 

منذ أكثر من نصف قرن، تصدح الأغنية الخالدة “راجع راجع يتعمر لبنان” للفنان الكبير زكي ناصيف في آذان اللبنانيين، حتى باتت نشيداً عاطفياً يُعاد ويُكرر كلما اشتدت الأزمة، وكلما نُكبت بيروت، وكلما تهدّمت البيوت وشُرّدت الأحلام. لم تسلم من هذه الأغنية أي مناسبة رسمية أو شعبية، حتى باتت أشبه بمخدّر وطني، يرقص على أنغامه المسؤولون، بينما البلاد تحترق تحت أقدامهم.

بالأمس، خرج رئيس الحكومة نواف سلام ، يصفق ويهز كتفيه على أنغام “راجع يتعمر لبنان”، وإلى جانبه نائب الرئيس ووزير الثقافة ، بمناسبة افتتاح مهرجانات بيت الدين السياحية ،مشهد قد يثير الحنين لو لم يكن مشحونًا بالمرارة والسخرية. كيف يُعقل أن تحتفل السلطة بأغنية الأمل، فيما الشعب يُسحق تحت ركام الإهمال، والفقر، والانهيار منذ عقود؟

لبنان لا يحتاج أغنية… بل يحتاج قرارًا!

إنها لحظة حقيقة لا تحتمل الزيف. الأغنية لا تعيد الإعمار، ولا تطفئ نار الانفجارات ولا تعيد الجنوب إلى طبيعته، ولا ترمم جدران المنازل والمؤسسات الصناعية والاجتماعية ، ولا تعيد المهاجرين إلى بيوتهم، ولا تنقذ الاقتصاد من قعر الجحيم. فمتى نتوقف عن الرقص على حطام أنفسنا؟

المعادلة واضحة: لبنان لا يُمنع من النهوض بيد القدر، بل يُمنع بفعل فاعل.ومنذ أشهر، يواجه جنوب لبنان حرب استنزاف إسرائيلية تتوسّع وتتمدّد. ومئات الغارات، آلاف المهجّرين، قرى مدمّرة، أراضٍ محترقة، وحالة شلل اقتصادي وأمني واجتماعي. ومع ذلك، لا قرار وطني موحّد حول كيفية المواجهة أو إدارة هذا الصراع. الدولة غائبة إلا من بعض المواقف الرمادية، الحكومة مربوطة اليدين. والقرار العسكري خارج الدولة، في يد “حزب الله” الذي يتصرف وفق استراتيجية مستقلة، يعتبرها البعض دفاعًا مشروعًا، ويرى فيها آخرون تجاوزًا لمبدأ الدولة الواحدة.

لكن النقاش الحقيقي ليس حول من يُطلق الصواريخ، بل حول من يُطلق القرار. وحين يُطرح موضوع “حصر السلاح بيد الدولة”، لا يُقابل بتحديد آليات، بل بتأويلات: فريق يراه محاولة لنزع سلاح المقاومة في لحظة خطر، وآخر يراه المدخل الوحيد لبناء دولة سيّدة. وهكذا، يبقى لبنان رهينة ازدواجية السلاح، وتعدّد المرجعيات، وانقسام التفسيرات.

في قلب هذه الأزمة، تستمر الدولة اللبنانية بتأدية دور “المُراقب الرسمي”، في الوقت الذي يُطلب منها أن تكون الفاعل السيادي الأول: لا برنامج طوارئ اقتصادي يواكب الكارثة للخروج منها ، ولا موقف واضح من إدارة الصراع أو أفق التفاوض. فحتى الخطاب السياسي الرسمي يتجنّب تسمية الأشياء بأسمائها. وفي المقابل، تتصرّف القوى الدولية كأنّها تفاوض على لبنان، لا لأجله.

الوساطات مستمرة، لكن الشروط تتراكم: نزع سلاح المقاومة، تعديل القرار 1701، فرض منطقة عازلة، كلها طروحات تُناقَش خارجيًا بينما الدولة اللبنانية لم تجتمع على موقف موحّد.

ما الذي يعيق عودة “الاعمار"إلى لبنان؟

العائق اليوم ليس فقط في سلاح خارج الدولة، بل في دولة بلا قرار، بلا إصلاح، وبلا رؤية وطنية جامعة.

الإصلاحات المطلوبة واضحة، ولكنها مؤجلة، بل معلّقة على نوايا سياسية لا تأتي: إصلاح النظام الإداري والقضائي ليصبح فاعلًا ومستقلًا، وتحرير قرار الدولة من وطأة المحاصصة والطائفية."، وضبط المعابر والحدود والسلاح في يد الشرعية، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن عبر الشفافية والمحاسبة.

لكن كل ذلك يصطدم بمعادلة معروفة: لا سلاح بلا تفاهم وطني، ولا إصلاح بلا إرادة سياسية، ولا دولة بلا كلفة سيادية، لم يعد الوضع يحتمل تأجيل الخيارات، ولا يمكن العيش في بلد تقرر فيه مجموعة متفرّدة الحرب والسلم، ولا يمكن إصلاح الاقتصاد في ظل اقتصاد موازٍ خارج رقابة الدولة.، ولا يمكن إعادة الإعمار في ظل ازدواجية القرار الأمني والمالي،. فلبنان في مفترق لا يشبه أيّ مرحلة سابقة، والتهديدات وجودية، من الداخل والخارج، فإما تُبنى الدولة على أساس سيادي فعلي، وإما يبقى لبنان مشروعًا معلقًا على توقيع الخارج.

ولذلك، لا تغنّوا الأغنية… طبّقوا معناها

“راجع يتعمر لبنان” ليست مجرّد كلمات،إنها عهدٌ بالعودة إلى الدولة. وإلى الشرعية الواحدة، والسلاح الواحد، والموازنة الشفافة، والقضاء المستقل.وليتوقف الرقص، ولنبدأ السير نحو الدولة التي تحمي الجميع، لا التي تنقسم عليهم. وولنطرح السؤال الجوهري بوضوح:

من يمنع الدولة من أن تكون دولة؟

وإلى متى ندفع نحن ثمن هذا المنع؟

المنشورات ذات الصلة