عاجل:

معنى أن تصمد إيران بوجه العالم (الأخبار)

  • ٢٠

كتب إبراهيم الأمين:

منذ توقفت الحرب بشكلها المفتوح من الجانبين في لبنان، طرأ تطور كبير على خطاب المقاومة. وصار لزاماً الإقرار بأنّ لغةً ما لم تعدْ صالحة لمخاطبة العقل الجمعي، حول مستقبل المواجهة مع عدوّ لا يمكن العيش معه. والصمت عن كثير من التفاصيل، ليس سببه نقصاً في القدرة على الكلام، بل هو من النوع الذي يتوجّب على كل عاقل أن يلتزم به، ليكون بمقدوره، في يوم ما، الحديث عن حقيقة ما حصل معنا في هذه الحرب الخبيثة. وهذا عنصر أساسي في المراجعة.

كما أنّ الصمت عن كل ما يحضّر له بقية القوم، وهم كثر جداً، هو سياسة بحد ذاته، ولو أن جمهور المقاومة في لبنان والمنطقة سيتعب من ثقله. لكن علينا أن ندرّب أنفسنا، على أنّ الخطاب التعبوي الذي كان سائداً، وكان له ما يبرّره، وكانت له موجباته ومنابره وسادته، ليس هو ما تحتاجه المرحلة الراهنة، ولا حتى القادم من أيام استعادة زمام المبادرة.

على هذا النحو، يُفضّل التعامل مع الحرب الأميركية - الإسرائيلية على إيران بخطاب عقلاني إلى أبعد الحدود. فالعاطفة لا تحتاج إلى صفّ كلام، بل يكفي وجود قائد محبوب وموثوق، كالسيد الخامنئي، للتعويض عن ألف خطبة تعبوية. لا سيّما أنّ الرجل ليس مضطراً لاستعارة القلب ليصل إلى العقل. بل هو صاحب خطاب دقيق وواضح، يكفي زاداً لرحلة طويلة في مواجهة السرطان الصهيوني.

اليوم، دخلنا في مرحلة اختبار جديدة. لم تظهر بعد ملامح السياسة التي تريد أميركا وإسرائيل اتّباعها في مواجهة إيران - الدولة وإيران - الثورة. لكننا نعرف أن لدينا عقلاً يساعدنا على قياس الأمور، كي نقارب نتائج ما حصل، بعيداً عن رغبوية مراهقة، وأن نكون أكثر التصاقاً بأفكار واقعية، لا تلغي كل طموح بإزالة إسرائيل من الوجود. ولذلك، قد يكون الأنسب، إعادة رسم الأهداف المعلنة وغير المعلنة للحرب، حتى نتحدّث عن النتيجة. وهي أهداف كبيرة، وما حصل خلال الأيام الـ11، حلقة في مسلسل طويل. وعلينا التصرّف على هذا الأساس، ليس لأنّ العدوّ غدّار ولئيم، بل لأنّ هدفه الأساسي لم يتحقّق.

بدايةً، اتّفقت أميركا وإسرائيل على أنّ خطر تسلّح إيران بالقنبلة النووية سبب كافٍ لإطلاق حرب مدمّرة. ثم أضافتا عليه خطر تصنيع وامتلاك واستخدام ترسانة من الصواريخ تعوّض النقص الهائل في سلاح الجو. ورأتا أنّ بامكانهما كسر هيبة النظام في إيران أولاً، وتفريق شمل قيادته المركزية والعسكرية والسياسية ثانياً، ودفع الناس، ثالثاً، إلى حال من الخوف تسبق الفوضى بوجه الحكم. ولذلك عملتَا، كما تجيدان، على بناء قاعدة عمليّاتية داخل إيران نفسها، استناداً إلى جهد استخباراتي مذهل من حيث حجمه ونوعيّته وفعاليته.

وهو جهد، لم يقتصر على جمع المعلومات الضرورية، بل أسّس لإنتاج فرَق موت تعمل على الأرض أثناء الحرب، على أن يترافق ذلك مع حملة سياسية وإعلامية لحثّ الناس على الانتفاضة. وتدرّج العمل وفق البرنامج المقرّر، من فجر اليوم الأول، مع الضربة - الصدمة، وصولاً إلى قرار واشنطن الدخول في الحرب من زاوية محدّدة (يرجّح أنّ دور أميركا طرأ عليه تعديل جوهري ولهذا أسبابه). وما بين الخطوتين، تركّز الجهد العسكري على قوة نارية مستمدّة من قدرات هائلة في الأسلحة والذخائر.

ما حصل يؤكّد الآتي:

أولاً، فشلت الضربة الأولى في إفقاد إيران القدرة على السيطرة. جاءت الاغتيالات في توقيت صعب، لكنها لم تكن إقفالا لدائرة، بل على العكس، دلّت الأيام اللاحقة أن القيادة البديلة تولّت مهامها بمهنية عالية.

كما لم يحسمْ بعد ما إذا كان العدوّ سعى في الضربة الأولى إلى اغتيال قائد إيران وفشل. لكنّ التجربة التي نخوضها مع العدوّ، منذ عامين تقريباً، تؤكّد أنه كان يسعى إلى اغتيال الخامنئي، خصوصاً أنّ العقل الصهيوني يعتبره المسؤول الأول عن كل ما أصاب كيانه، أقلّه منذ 35 سنة، وكان بنيامين نتنياهو شخصياً، يرى فيه آخر حبّة في عنقود من سبق أن اغتالهم في إيران ولبنان وفلسطين والعراق.

ثانياً، فوجئ الأميركيون والإسرائيليون (وحتى بعض أصدقاء إيران) من ردّة فعل الشعب الإيراني. كثيرون من المتبحّرين في الشأن الإيراني أقرّوا بأنّ ردّة فعل الشعب على العدوان كانت أكبر من كل التوقّعات. إذ ظهرت لحظة توحّد، لها خلفيّاتها وأبعادها، لكنها كانت ضرورية لحسم كل النقاش الداخلي حول سياسات النظام. وما ظهر من ردود فعل الإيرانيين خارج البلاد، أظهر أنّ الجميع كانوا يشعرون بأنّ بلادهم، وليس الحكم القائم فيها، هي الهدف من العدوان.

وهو ما أدّى إلى عزل المجموعات المنظّمة التي انخرطت مع العدوّ، وتولّت إدارة مراكز تصنيع وتجميع وضرب مسيّرات أو وضع عبوات ناسفة أو حتى القيام بعمليات اغتيال، فتحوّل هؤلاء، في لحظة واحدة، إلى مرتزقة طالب الناس بإعدامهم، كما أظهرت الإجراءات الأمنيّة الدور الكبير للسكان في كشف هذه المجموعات، علماً أنّ بعض من جنّدهم العدوّ سارعوا إلى إبلاغ السلطات عن أدوار يقومون بها، وكانوا يجهلون هوية المشغّل لهم.

ثالثاً، أدّت نتائج الأيام الستة الأولى إلى تبدّل جوهري في المزاج العام. فصار الشارع الإيراني يطالب قيادته بردّ أكثر قساوة على العدوّ. وعندما ظهرت نتائج القصف الصاروخي على الكيان، وجد الأميركيون انفسهم في لحظة اختبار لم تكن مقرّرة في تلك اللحظة. صحيح أنهم يوفّرون كل الدعم للحرب، لكنّ رجلاً كدونالد ترامب - مهما كان وفياً أو صديقاً لإسرائيل - يسعى طوال الوقت لسرقة الأضواء، ما كان ليهتمّ بسقوط شهداء من المدنيين أو العسكريين الإيرانيين في أي ضربة تنفّذها قواته، إلا أنه حاذر ذلك، لأنّ إسرائيل لم تضمن له تعطيل قدرة إيران على الردّ بالصواريخ.

فوجد الأميركي نفسه في لحظة اضطرّ فيها إلى اتّخاذ قرار سريع، معلناً دخوله الحرب لتدمير المشروع النووي، وإضعاف قدرة إيران الصاروخية، والتمهيد لجرّها إلى الاستسلام. وما حصل أنه كما تحدّث ترامب عن تلقّيه إنذاراً إيرانياً مسبقاً بضرب قاعدة الدوحة، فإنه حرص على إرسال الإشارات الكافية لنيّته ضرب المنشآت النووية، وقال إنه لا يريد قتل أي جندي أو مدني إيراني، وهو ما عاد وتفاخر به رئيس أركان جيوشه في اليوم التالي.

لكنّ ترامب كان مضطراً لأن يأخذ في الاعتبار حسابات إضافية، مثل ألّا تلجأ قواته إلى استخدام أي قاعدة في أي دولة في المنطقة أثناء الهجوم (صار واضحاً لجهات معنيّة أن الأميركيين، استخدموا إحدى قواعدهم في المنطقة لإرسال طائرات حربية مواكبة لعملية الغارات الكبيرة). ولأنّ ترامب بات واثقاً بأنّ الردّ الإيراني سيكون حتمياً، قرّر أن يرسم إطار ضربته، من أجل أن يرسم مسبقاً إطار الردّ الإيراني. وهو طبعاً، كان يتّكل على أنّ إيران ليست في وضع يمكّنها من قصف منشآت نووية داخل الولايات المتحدة.

رابعاً، ليس صحيحاً أنّ إسرائيل كانت واثقة من كل ما تقوم به. وبينما تنقل وسائل إعلام بريطانية عن خبراء أمنيّين في إسرائيل تقديرهم بأنّ الضربة الأميركية لم تعطّل المشروع النووي الإيراني، تصرّفت تل أبيب منذ اليوم الأول، بأنّ مهمة من هذا النوع تتطلّب نزول جنودها على الأرض. وبرغم الجرأة التي تتمتّع بها قوات الكومندوس الإسرائيلية عادة، إلا أنّ قراراً سياسياً وأمنياً ومهنياً، حال دون اللجوء إلى هذا الخيار.

فيما وجدت نفسها من اليوم الرابع أمام تحدي القوة الصاروخية الإيرانية، إذ باتت مضطرّة إلى اعتماد برنامج عمل أمني وعسكري داخل إيران وداخل الكيان، لاحتواء القصف. ورغم أن المؤسسة الأمنيّة والعسكرية كان لديها تقدير حول معنى أن تُقصف مدن الكيان بالصواريخ، إلا أنها لم تكن لتشرح للمستوطنين تفصيل الأمر، خشية أن يرتفع الصوت المعارض للمعركة. ومع ذلك، فإن قيادة الاحتلال، بدت متفاجئة بآلية العمل التي اعتمدها الإيرانيون، كما فوجئت ببعض القدرات الإيرانية، إضافة إلى عدم قدرتها على حجب النتائج الفعلية عن سكان الكيان طويلاً، ولو حجبت الصور عن الجمهور لبعض الوقت.

وتطور الأمر، وصولاً إلى تكوّن قناعة لدى إسرائيل، بأنه يصعب الحديث عن محاصرة القدرات الصاروخية لإيران. فكانت تل أبيب مضطرّة للتفكير في بديل للمرحلة اللاحقة. لكنّ طبيعة الردّ الإيراني عطّلت قدرتها على توسيع دائرة القصف ضد المنشآت المدنية الإيرانية، لأنها تعرف أنّ بمقدور الإيرانيين الردّ بالطريقة نفسها داخل الكيان. علماً أنه سيُنشر قريباً تقرير مفصّل عن عدد الصواريخ التي أطلقها الإيرانيون أثناء الحرب، وطبيعة الأهداف التي أصابوها، ولو أنّ إيران أرادت قتل عدد كبير من المستوطنين، لفعلت ذلك بسهولة. فكان أن التزمت إسرائيل بقواعد اشتباك معيّنة، لكنّ النتيجة بالنسبة إليها، هي عدم قدرتها على تحقيق هدف تعطيل القدرات الصاروخية.

وكي لا نغرق في تحليل بقية الأهداف السياسية، فإنّ حصيلة ما حصل، هو أنّ الهدف المركزي بتدمير المشروع النووي (السلمي أو العسكري) ليس خبراً مؤكّداً، وستظهر الأيام حقيقة الأمر. كما أنّ هدف ضرب القدرات الصاروخية لإيران صار من الماضي. وبالتالي، فإنّ العدوّ الذي يفكّر في الحصول على حرية حركة في إيران كما يفعل الآن في سوريا ولبنان، يعرف أن الأمر غير ممكن، وأنّ كلفته باهظة، وليس أمامه سوى الالتزام بوقف إطلاق النار، وسيعود إلى العمل من جديد، وفق آليات أمنيّة خبيثة، علماً أنه يعرف أنّ «اليقظة» باتت عنواناً يخصّ كل مواطن إيراني، وهو ما يفيد سلطات طهران في مكافحة برنامج التجسّس العام، ولو أن التحدي الكبير أمام الجيش والحرس الثوري يبقى في حصر الثغرات التي نفّذ منها العدوّ، ليتمكّن من الوصول إلى أهداف بشرية وعسكرية أثناء الحرب.

كل ما تقدّم، يقول لنا إنّ إيران صمدت في هذه المعركة، وإنّ العدوان فشل في تحقيق أهدافه الأساسية. وما تبقّى، هو رهن ما تحمله الأيام من أخبار ومعطيات وأفعال. لكنّ الأكيد الذي لا يحتاج إلى خطاب تعبئة أو فحص إرادة، هو أنّ الحكم في إيران ليس في وضع يفرض عليه تغيير قناعاته، أو تعطيل برامجه، أو تخلّيه عن خيار دعم المقاومة بوجه إسرائيل.

والأكيد أنّ على الحكم في إيران البحث في شكل ردّ الجميل إلى شعبه أولاً، قبل إعادة النظر في كثير من آليات التفكير، وأدوات العمل، حاله كحال جميع أطراف محور المقاومة.

بهذا المعنى، يصبح الحديث عن الصمود كسراً لمنطق الهزيمة التي يريد أنصار أميركا وإسرائيل إقناع الناس بأنها حاصلة!

وفقط لأصحاب الذاكرة المثقوبة. هل نسيتم ما قاله ترامب قبل أقل من اسبوع: استسلام غير مشروط!


المنشورات ذات الصلة