بقلم عصام شلهوب
أراء حرة - "إيست نيوز":
في سرداب الانهيار اللبناني، تدحرجت الليرة إلى هاوية لا قرار لها، سرقت ودائع الناس جهاراً، وتُبنى المصارف على رماد الثقة. وفي زاوية خفية من هذا المشهد القاتم، يجلس أربعة رجال يُدعون «نواب حاكم مصرف لبنان». لا يتكلمون إلا عند اللزوم، ولا يتحركون إلا بحساب سياسي. وجوه رمادية في مشهد كارثي، حملوا الأختام ولم يحملوا ضمائر، وشهدوا على الجريمة ولم ينطقوا بالحقيقة.
منذ سنوات، وهذه المجموعة تراقب من برجها العاجي كيف تنقض الوحوش السياسية على الاقتصاد اللبناني. لم يكونوا مجرد شهود، بل كانوا شركاء بالصمت، شركاء بالغطاء القانوني، شركاء في التجاهل الممنهج لكل صرخة مودع ولكل شركة أغلقت أبوابها، ولكل عائلة هجرت وطنها.
نائب الحاكم الاول وسيم منصوري، تحوّل من أستاذ قانون إلى أستاذ في فنون المراوغة. يُقدم نفسه حامياً للمالية العامة، رافضًا الإنفاق العشوائي، لكنه هو نفسه مَن استمرّ في تغذية حكومات العجز والسلب بحجج قانونية مطاطة، ويُقال إنه استشار الخزانة الأميركية أكثر مما استشار المودعين الذين تبخرت أموالهم.
منصوري ليس رجلاً عادياً. إنه سليل المدرسة “البريّة” في فن الإمساك بالمفاصل من خلف الستار. يُقال إنه الأقرب إلى عين التينة، وإنه خط الدفاع الأول عن المصالح الشيعية في مصرف لبنان. لكن دفاعه عن الليرة كان هشاً، ودفاعه عن الناس كان غائباً. صمت عن انهيار المصارف، تواطأ مع “صيرفة”، واكتفى بإصدار بيانات باهتة عن «وقف التمويل» بينما كان المال العام يُنهب كقطيع بلا راع.
من هم النواب الثلاثة الآخرون؟ لا أحد يعرفهم جيداً. أسماء بلا وجوه، يمرّون في الأخبار كأنهم موظفو أرشيف لا صُنّاع قرار. لم يسمع اللبنانيون صوت نائب الحاكم الثاني (السني)، ولا الثالث (الدرزي)، ولا الرابع (الأرمني). وحدهم في الاجتماعات الداخلية، يهمسون بعبارات رفض أو قبول، لكنهم لا يملكون الجرأة ليقولوا: “كفى”.
وهل يستحقون غير وصف «الديكور»؟ تم تعيينهم بالتوازن الطائفي المريض، ليكونوا توازنات لا قرارات، رموزًا لا أدوات إصلاح. اختبأوا خلف حجج القانون، بينما كانت المنظومة تسلب صندوق النقد، والمودعين، والاحتياطي. واليوم، يُقدّمون أنفسهم كأبطال وقف الدعم، لكنهم لم يرفضوا استمرار الفوضى النقدية. لم يعترضوا حين بيعت سندات الدولة برخص التراب. لم يتقدم أحدهم بمبادرة قانونية واضحة لإعادة هيكلة المصارف.
اما لماذا يجب أن يُقالوا… الآن؟
لأنهم لم يعودوا صالحين إلا لمزيد من التمويه. ولأن لبنان لم يعد يحتمل رجالًا يتقنون فن البقاء بلا أفعال. ولأننا لا نحتاج نواب حاكم محكومين بولاءات سياسية وطائفية، بل بحاجة إلى رجال دولة يمتلكون الجرأة لاجتراح حل، والشفافية لقول الحقيقة، والشجاعة لمصارحة الشعب.
اليوم، يختبئ خلف كل نائب حاكم “مرجعية”؛ هذا تابع لزعيم، وذاك صنيعة حزب، والآخر محاصصة طائفية. كيف نرجو من هكذا توليفة أن تُصلح نظامًا مصرفيًا مريضًا؟ بل كيف نطلب من شهود الزور أن يكونوا قضاة على جريمة هم أحد أركانها؟
أي إصلاح يبدأ من اقتلاع جذور الفساد داخل مصرف لبنان. نعم، يجب أن تُقلع جذور التواطؤ في مكتب النواب الأربعة. لا نريد تصريحات صحافية جديدة عن “الخوف من الانهيار”، فقد وقعت الواقعة. نريد استقالات تفتح باب المساءلة. نريد تحقيقًا يكشف من صمت، ومن وافق، ومن غطّى.
في زمن الانهيار، الصمت جريمة. وإن كانت الحكومات شريكة في التدمير، فإن نواب الحاكم شركاء في التبرير.
فليرحلوا.