بقلم عصام شلهوب
آراء حرة "ايست نيوز" - في لبنان، كلما طُرح ملف إصلاح الدولة وانتظام عمل مؤسساتها، يلوّح البعض بذريعة باتت مألوفة: “لا يمكن إصلاح الدولة قبل حصر السلاح بيدها”. عبارة تتردّد على ألسنة السياسيين، فتبدو كأنها توصيف للواقع، بينما هي في الحقيقة تبرير مفضوح للعجز والتقاعس. فهل يُعقل أن تبقى مؤسسات دولة بأكملها رهينة هذا الشرط المفتوح زمنًا ومسؤولية؟
إن الربط بين تطبيق القانون ووجود السلاح غير الشرعي هو مغالطة بنيوية خطيرة. لا أحد يُنكر أثر السلاح المنفلت على السيادة والأمن، لكن استخدامه كذريعة لتعليق الإصلاحات الإدارية والاقتصادية يفتقر إلى المنطق والمصداقية. فهل يحتاج تحديث الإدارة العامة إلى نزع السلاح؟ هل يعجز المسؤولون عن رقمنة المؤسسات أو إصلاح القضاء أو إقفال مزاريب الفساد لأن هناك جهات مسلّحة.
لو كان السلاح هو العقبة الوحيدة، لكانت الإدارات البعيدة عن نفوذه نموذجا في الشفافية والنزاهة. لكن الواقع يُكذّب هذه المزاعم: الفساد ينهش كل مفاصل الدولة، من المالية العامة إلى التعليم والصحة والجمارك... والمافيات التي تعبث بالمرفأ والمطار لا تملك صواريخ بل تملك تغطية سياسية. إذًا، أين دور السلاح هنا؟
الحقيقة المُرّة أن المشكلة الأساسية لا تكمن في وفرة السلاح بل في غياب الإرادة السياسية، وفي منطق “الدولة الغنيمة” الذي حوّل الإدارة العامة إلى حلبة للمحاصصة.
الطائفية والمذهبية، والتشكيلات الإدارية والقضائية وحتى الأمنية خير دليل. القوانين لا تُطبّق لأن من يُفترض بهم تطبيقها هم أنفسهم من يستفيد من كسرها. فالموظف المحمي لا يحتاج إلى سلاح، بل إلى مرجعية سياسية تمنع محاسبته.
أما الزعم بأن مقاومة الاحتلال تبرّر تأجيل بناء الدولة، فهو قلب للمعادلة. عبر التاريخ، شيدت حركات التحرر الوطنية مؤسساتها وسط المعارك، لا بعد انتهائها. في لبنان، كلما اشتدّ الحديث عن “المقاومة”، تفككت المؤسسات أكثر، وتحوّلت الدولة إلى هيكل خاوٍ. فهل المطلوب مقاومة الاحتلال أم مقاومة قيام الدولة؟
الأخطر من ذلك أن هذه الذريعة تؤجل كل شيء: إصلاح القضاء؟ ننتظر نزع السلاح. إنهاء الفساد؟ ننتظر الدولة القوية. ضبط المالية العامة؟ لا يمكن في ظلّ الانقسام. والنتيجة: دولة تنتظر إلى ما لا نهاية، بينما المواطن يدفع الثمن من أمنه وخبزه وكرامته.
إن ما تحتاجه البلاد ليس إزالة السلاح فحسب، بل إزالة عقلية الميليشيا السياسية التي تمسك بمفاصل الدولة. الإصلاح يبدأ من داخل المؤسسات، لا من طاولة التفاوض مع من يحمل السلاح. حصر السلاح هدف مشروع، لكن لا يجوز استخدامه كشرط مسبق لإصلاح الإدارة أو وقف النزيف المالي. بل العكس، بناء الدولة القوية هو السبيل الوحيد لنزع السلاح بطريقة سلمية ودائمة.
لبنان لا يمكن أن يبقى أسير الذرائع. فإما أن تُستعاد الدولة، وإما أن يُعلَن رسميًا انتهاء صلاحيتها.