بقلم الدكتور سليم الزيبق
ساهمت الانتخابات البلدية والاختيارية وما رافقها في التعتيم الإعلامي على قرار المجلس الدستوري المتعلق بإصدار موازنة 2025 بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 6/3/ 2025. فبالرغم من أهميته المتعلقة بانعكاساته على استقلالية المجلس الدستوري بالنسبة للسلطة التشريعية، لم يحظ هذا القرار من وسائل الإعلام حتى ببضعة كلمات تنبئ بصدوره.
فبتاريخ 2025/3/26 صدر عن المجلس الدستوري، بأكثرية سبعة من أعضائه ومخالفة القاضيان ألبرت سرحان و فوزات فرحات، القرار الذي أعلن بموجبه المجلس صلاحيته لمراقبة دستورية مرسوم الموازنة الصادر عن رئيس الجمهورية عملا بأحكام المادة 86 من الدستور. تجدر الإشارة أيضا الى ان القاضي الدستوري أبطل في هذا القرار، ضمن أطار مراقبته لمضمون المرسوم، عدة مواد من المرسوم نفسه. الا انه نظرا لضيق المكان ولأهمية مسالة الصلاحية، لن نتعرض في هذه العجالة الا مسألة صلاحية المجلس الدستوري.
ضمن هذا الاطار، يجب التذكير ان الدستور لم يخصص للمجلس الدستوري إلا المادة 19 منه التي تحدد صلاحيته كما يلي: "ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية". إلا أن المادة 18 من قانون إنشاء هذا المجلس، الصادر بتاريخ 14/ 7/1993، تنص خلافا للمادة 19، على أن المجلس يتولى " الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون". انطلاقا من هذين النصين المتناقضين، كان على المجلس أن يجيب، في معرض بته بمراجعة النواب، على السؤالين التاليين: هل ان مرسوم إصدار الموازنة بقرار من مجلس الوزراء يعتبر من "النصوص التي لها قوة القانون؟" وفي حال كان الجواب إيجابيا، هل أن المجلس الدستوري هو الهيئة الصالحة لمراقبة دستورية هذه النصوص وبالتالي مرسوم الموازنة؟
في معرض رده على السؤال الأول، تبنى المجلس الدستوري التعريف الذي اعتمدناه في مقال سابق لنا (الرقابة القضائية على مرسوم الموازنة: القضاء الإداري ام القضاء الدستوري؟ الجمهورية، 20/3/2025، ص. 6)، حيث اعتبر "أن النصوص التي لها قوة القانون هي تلك التي تضطلع بها السلطة التنفيذية، أما بناء على تفويض من قبل السلطة التشريعية، أي المراسيم التشريعية، واما لتلافي تلكؤ المجلس النيابي في القيام بدوره كما في المادة 86 من الدستور". الا انه بدل ان يستنتج من هذا التعريف النتيجة المنطقية التي استقر عليها الاجتهاد الفرنسي واللبناني منذ عقود ويعتبر ان هذه النصوص تبقى أعمالا إدارية خاضعة لرقابة القضاء الإداري طالما انه لم يتم التصديق عليها من قبل مجلس النواب، أعلن المجلس الدستوري صلاحيته لمراقبة مرسوم الموازنة وبالتالي سائر النصوص التي لها قوة القانون.
للوصول الى هذه النتيجة علل المجلس الدستوري موقفه بعدة حجج.
في مرحلة اولى اعتبر المجلس أن المادة 18 من قانون انشائه، السابق ذكره، لا تتعارض مع المادة 19 من الدستور، عندما تنص على أن مهام المجلس تشمل مراقبة " النصوص التي لها قوة القانون"، في الوقت الذي لا تشير فيه المادة 19 من الدستور إلا الى "مراقبة دستورية القوانين". فبالنسبة للمجلس الدستوري أن قانون إنشاء المجلس، بما في ذلك المادة 18 منه، تم اقراره تنفيذا لأحكام المادة 19 من الدستور، أي بناء على تفويض من المشرع الدستوري. إلا أن هذا التعليل لا يتلاءم مع نص المادة 19 من الدستور التي تنص في فقرتها الأخيرة على أن "تُحدد قواعد تنظيم المجلس وأصول العمل فيه وكيفية تشكيله ومراجعته بموجب قانون"، دون أي اشارة، كما يمكن ملاحظته، الى صلاحية هذا المجلس. فبنصها أن المجلس الدستوري مُخول مراقبة دستورية "النصوص التي لها قوة القانون"، تشكل المادة 18 من قانون انشاء المجلس الدستوري مخالفة صريحة للمادة 19 من الدستور، مما يجعل المجلس غير ملزم بتطبيق المادة 18 وبمراقبة النصوص التي لها قوة القانون. في هذا السياق، تمكن القاضيان المخالفان من تقديم الدليل الساطع على أنه بحفظه صلاحية أُعطيت له بموجب قانون "عادي"، يكون المجلس قد ناقض نفسه بنفسه. ففي قراره الشهير بتاريخ 6/8/2005، رقم 2005/1، الذي أشار اليه القاضيان، أكد المجلس ان"اختصاصه يرتقي الى المرتبة الدستورية تبعا لإنشاء المجلس الدستوري وتحديد اختصاصه بموجب نص دستوري مما يجعل منه سلطة دستورية ... يستحيل المساس باختصاصها، وتعديلها او التنازل عنها الا بتعديل دستوري".
في مرحلة ثانية أكد المجلس على أن الدستور"حصر صلاحية التشريع في مجلس النواب ونص على أن القانون لا يكون مرعيا ومعمولا به ما لم يقره مجلس النواب ويصدره رئيس الجمهورية ويطلب نشره". الا انه بدل ان ينطلق من هذه المبادئ ليؤكد أن المراسيم الصادرة عن السلطة التنفيذية لا تتوفر فيها هذه الصفات وبالتالي لا يمكن أن تعتبر كقوانين تخضع لرقابته، اعتبر المجلس أن المادة 86 من الدستور تشكل "استثناء" على المبادئ الانفة الذكر شرط تحقق شروط المادة 86، أي عدم تمكن المجلس النيابي من البت بمشروع الموازنة طيلة عقدين، وطرح المشروع على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوما.
من الصعب معرفة الهدف الذي من أجله لجأ المجلس الى مفهوم" الاستثناء" لأنه يؤدي الى عكس ما يريد استنتاجه. فكلمة "استثناء" تعني القاعدة التي تطبق بشكل استثنائي، وتختلف عن القاعدة العامة وذلك لمواجهة ظروف خاصة. فعندما نقول أن المادة 86 تشكل استثناء على المبدأ القائل "إن القانون لا يكون مرعيا ومعمولا به ما لم يقره مجلس النواب"، الا يعني ذلك ان النص الصادر بموجب هذه المادة ليس له صفة القانون ولا يخضع بالتالي لرقابة المجلس الدستوري؟
أخيرا، بالنسبة للقاضي الدستوري، أن قانون المحاسبة العمومية هو قانون " أساسي"، وهو في عداد المواضيع الأساسية المذكورة في المادة 65 من الدستور. كذلك يعتبر المجلس ان صلاحية إقرار الموازنة من حيث مضمونها تعود الى السلطة التشريعية بموجب قانون " وأن أعمال أحكام المادة 86 من الدستور من شأنه نقل الصلاحية الى السلطة التنفيذية" مما يؤدي الى الإفلات من رقابة دستورية القوانين التي تعود الى المجلس الدستوري، وهذا ما لم يستسيغه المجلس.
من المستغرب أن يشير المجلس الدستوري الى مفهوم القانون الأساسي (la loi organique) لأنه من المعلوم ان دستورنا، خلافا للدستور الفرنسي، لا يعرف هذا المفهوم. والأكثر غرابة أن يتم الاستشهاد بالمواضيع الأساسية التي تعددها المادة 65 من الدستور، لأن ذلك لا علاقة له بتصنيف القوانين الصادرة عن مجلس النواب أو بتحديد المرجع الصالح للرقابة على هذه المواضيع وانما بتحديد الاغلبية اللازمة لاتخاذ القرارات بشأنها في مجلس الوزراء.
في مخالفتهم لقرار الأكثرية، اعتبر القاضيان سرحان وفرحات "أن التمادي في منح المجلس الدستوري صلاحيات بموجب قوانين عادية ...قد يطيح باستقلالية هذا المجلس ويجعله خاضعا لمزاجية التعديلات التي تقررها السلطة التشريعية والتي هي من المفترض خاضعة لرقابة المجلس". وهذا ما عبرنا عنه في مقالنا السابق ذكره، بتخوفنا من " أن يحدد الخاضع للرقابة صلاحيات المُراقب". ولكن ما العمل إذا كان "القاضي راضي"!؟
أستاذ جامعي متقاعد جامعة ستراسبورغ - فرنسا