كتب ابراهيم الأمين:
الاستعراض الكبير الذي نشهده منذ أيام عدة، لا يقتصر ضجيجه على دول الخليج العربي، ولا حتى بلاد الشام فقط. بل هو استعراض يعكس النمط المعتمد من قبل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إدارة ملفات الإقليم. وقد يكون مناسباً، فهم أنّ متغيراً كبيراً طرأ على العقل العربي، والخليجي منه على وجه الخصوص في التعامل مع الجانب الأميركي.
فهم أيضاً أظهروا قدرة عالية على الاستعراض. ولعبة الأرقام التي تظهر في خطب ترامب وآخرين، لا يبدو أنها مطابقة لنتائج العلاقات بين هذه الدول وبين أميركا في العقد الأخير. وتكفي الإشارة إلى أن ترامب نفسه، كان قد أعلن خلال ولايته الأولى عن استثمارات خليجية في الولايات المتحدة بمبالغ تفوق الألف مليار دولار.
لكن التدقيق في البيانات المالية الصادرة عن جهات رسمية في واشنطن وفي دول الخليج، تظهر أن الأرقام أقل بكثير مما أعلن عنه. وهو أمر مفهوم، خصوصاً أن الوضع المالي لدول الخليج، ليس في حالة نمو كما يفترض العالم.
حتى إن السعودية تواجه أزمات مالية جدية، دفعتها إلى إلغاء عدد كبير من المشاريع الداخلية، بينما تواجه قطر نتائج سلبية لكل الاستثمارات التي رافقت برنامج العمل على كأس العالم، فيما تعمل أبو ظبي على زيادة الاستثمارات الأجنبية عندها، خصوصاً أنها عملت على تعزيز الموجودات المالية في مصارفها، نتيجة الأدوار الكبيرة التي تلعبها في الإقليم. لكن الاستثمارات الإماراتية في الولايات المتحدة ليست في المستوى الذي يتحدث عنه الإعلام.
لكن ما هو بحاجة إلى تدقيق إضافي، يتعلق بكون الولايات المتحدة التي تعرف واقع هذه الدول، لا تريد لها أن تتجه إلى زيادة الاستثمارات في العلاقات مع الصين على وجه الخصوص، إضافة إلى وضع قيود سياسية على أي استثمارات في دول المنطقة. ويرد في هذا السياق المنطق القائل إن الإنفاق العربي في الدول العربية، لا سيما في بلاد الشام، لن يصل إلى نتائج كبيرة، ما لم يكن رهن وزمة سياسية كبيرة، تحصل بإشراف أميركي.
وعلى هذا الأساس، يتوجب على المسؤولين في لبنان، كما على الرأي العام، متابعة ما يتعلق بلبنان وحاجاته. وكل المؤشرات لا تزال سلبية، بل ينقل زوار العواصم المانحة إشارات مقلقة، تبدأ بأن العرب والغربيين، لا يشعرون بأن لبنان يمثل مركزاً مهماً لأي حركة تجارية أو مالية، وأن دوره السياسي في مرحلة أفول، وأن القضاء على هذا الدور، يجب أن يتم عبر القضاء على قوة المقاومة فيه.
وهو ما يدفع هذه الدول إلى التعامل مع لبنان على أنه دول تابعة لبرنامج لا يخص لبنان بالأساس، وفي هذه النقطة، يبرز موقع سوريا في أي محادثات أميركية مع دول المنطقة. علماً أن الصناديق العربية، تعرف أنها أمام تحديات كبيرة مرتبطة بإعادة إعمار سوريا وغزة بينما يقف لبنان في موقع متأخر، وكل ما يمكن أن يحصل عليه لا يتجاوز بضعة مليارات من الدولارات، والتي ستكون على شكل قروض أو على شكل مقايضة مع تنازلات سياسية.
في هذا السياق أيضا،ً يجب النظر إلى ما يجري مع سوريا ومع السلطة الجديدة فيها. والله أعلم إذا كان في لبنان، من مسؤولين أو سياسيين، من يحتاج إلى أدلة إضافية على موقع لبنان الفعلي في خارطة اهتمامات الدول الخليجية أو الولايات المتحدة نفسها.
وكل ما حصل خلال الأشهر الستة الماضية، يدل من يرغب أن يفهم على مركز الاهتمام الحقيقي، سواء عند السعودية وقطر والإمارات، أو عند الأميركيين والأوروبيين. وما حصل خلال الشهور الثلاثة الماضية، ظهرت الكثير من المؤشرات على أن سوريا تمثل مركز الاهتمام، وأن لبنان يتم تعويضه بلقاءات بروتوكولية من دون أي نتائج، لكن يراد للبنان أن يُظهر درجة عالية من «الانفحاط» لمجرد أن قررت دول الخليج السماح من جديد لمواطنيها بالعودة إلى لبنان.
لكن لبنان الرسمي والسياسي لا يجرؤ على الكشف عن حجم الإنفاق الذي حصل في لبنان من قبل مواطنين من دول عربية أخرى لم يتوقفوا عن زيارة لبنان. هل تقول مستشفيات كبرى مثلاً، كم حصلت على أموال من العراقيين والأردنيين والسوريين الذين جاؤوا إلى لبنان للعلاج خلال السنوات الخمس الأخيرة؟
لكنّ الجانبين الأميركي والخليجي يعطيانا فكرة عما يريداه من لبنان، وما يريداه من بقية دول المنطقة، فقط من أجل رفع الحصار، وليس لفتح الباب أمام تنمية حقيقية في هذه الدول. وهذه الفكرة لها مسرح مفتوح اليوم، اسمه سوريا.
ومع أنّ كثيرين لا يزالون يجمعون المعطيات حول حقيقة ما حصل يوم سقوط نظام بشار الأسد، وأدوار الأطراف الإقليمية والدولية فيه، فإن الإشارة الأولى التي يجب التقاطها من نشاط الأسبوع الماضي، تتعلق بالمعايير التي وضعتها الوصاية الأميركية – السعودية على سوريا من أجل فتح باب العلاقات، والتي يراد للبنان أن يراقبها، مع العلم، أن واشنطن والرياض ليستا بعيدتين عن فكرة أن استقرار النظام في سوريا، وحصول نمو في هذه البلاد، سوف يتيحان لها أن تعود إلى لعب دورها في إدارة جانب من الملفات اللبنانية. على خلفية فكرة موجودة في عقل حاكم السعودية، بأن لبنان لا يمكن حكمه إلا من قبل طرف قادر وقوي وغير ديموقراطي!
وقد رصدت دول عربية عدة كل ما حصل مع الشرع منذ وصوله إلى قصر الشعب في دمشق، وقد تجمعت مجموعة من التقارير الديبلوماسية التي أعدّتها سفارات عربية في عدد من العواصم العربية والغربية وفي بعض المنظمات الدولية، والتي تعطي فكرة، عن مسار سلكه الشرع وفريقه منذ كانون الأول الماضي، حتى ذهابه إلى السعودية لنيل بركة ترامب.
اجتماعات أميركية سورية من دمشق إلى نيويورك وأوروبا:
نريد ضمانات بعدم وجود أسلحة كيميائية
تؤكد الوثائق الدبلوماسية أن زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي بربارة ليف إلى العاصمة السورية في نهاية السنة الماضية، فتحت الباب أمام مسار من شقين: رسمي مُعلن تعرض فيه واشنطن شروطها ورؤيتها لدور سوريا مُستقبلاً، وشق غير رسمي يقوم على لقاءات ثنائية بعيداً عن الأضواء بين ديبلوماسيين من الجانبين في عواصم عدة.
وتبين أن الأميركيين يريدون من السلطة الجديدة أمرين رئيسيين: ضمان انتقال للسلطة في سوريا، وتوفير معلومات حول برنامج الأسلحة الكيميائية السورية.
كما ان الاتصالات الرسمية عقدت في عواصم غربية رئيسية وفي مقر الأمم المتحدة في نيويورك. وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، قامت مندوبة الولايات المتحدة في المنظمة الدولية ليندا غرينفيلد في الأسبوع الثاني من كانون الأول الماضي، أي بعد أيام قليلة على سقوط النظام السابق، بعقد اجتماع مع مندوبين من بعثة سوريا في الأمم المتحدة برئاسة قصي الضحاك، وقد جرى اللقاء في مقر البعثة الأميركية، وحضره نائبها روبرت وود والسفيرة دوروثي شيا.
واشنطن حاولت تجنيد ديبلوماسيين سوريين على غرار ما فعلته مع الروس غداة انهيار الاتحاد السوفياتي
وبادرت غرينفيلد للإشادة بالبيانات الرسمية الصادرة عن السلطة الجديدة في دمشق، لكنها قالت إن بلادها «تراقب الموقف وتتوقع أفعالاً تتناسب مع النوايا المُعلنة. وإنه لن يكون هناك في الوقت الحالي أي اعتراف أميركي بالحكومة السورية الجديدة أو الإعلان عن عودة العلاقات الديبلوماسية بين الجانبين في انتظار رؤية بعض النتائج».
وتكشف الوثائق أن غرينفيلد شددت على «أهمية أن تكون الحكومة القادمة ذات صفة تمثيلية واسعة»، لكنها توقفت عند نقطتين رئيسيتين: الأولى وجوب أن «تُحدد الحكومة الجديدة مجال علاقاتها مع كُل من إيران وروسيا»، ملمحة إلى «أهمية تقييد هذه العلاقات»، والثانية «منع وقوع الأسلحة الكيميائية في الأيدي الخطأ» وقد طالبت السلطات الجديدة بـ«التعاون الكامل مع مُنظمة حظر الأسلحة الكيميائية». كما أكدت أن قوات الولايات المتحدة ستواصل القيام بمهمة مواجهة الإرهاب من جانب تنظيم «داعش» على الأراضي السورية، وطلبت من الحكومة السورية المُؤقتة عدم الاعتراض على ذلك.
ومن جهته، أكد الوفد السوري «أن الحُكم الجديد في دمشق يريد علاقات ودية مع جميع دول العالم، ولا يسعى إلى الانضمام إلى أي محور في المنطقة».
أما المسار الثاني للاتصالات، فقد أطلقه الأميركيون بغرض الحصول على معلومات مُحددة من الديبلوماسيين السوريين في الخارج، حول الأسلحة الكيميائية السورية.
في هذا الإطار، حاول ديبلوماسيون أميركيون مطلع العام الجاري التواصل مع القائم بالأعمال السوري في لاهاي لؤي العوجي، وتم ترتيب لقاء «على فنجان قهوة» في مكان غير رسمي، وبرروا ذلك بأنهم «تلقوا الضوء الأخضر من واشطن بإقامة اتصالات «شخصية» مع ديبلوماسيين سوريين» وأن الإذن أعطي بعد زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي بربارة ليف إلى دمشق التي جرت في آخر السنة الماضية. كما جرت مُحاولات اتصال لاحقة، وقد أفصح ديبلوماسيون أميركيون عن الهدف من اللقاءات «الشخصية» وهو «البحث أيضاً عن نقاط تتعلق بالأسلحة الكيميائية السورية، من دون أي تفاصيل».
ويتضح من التقارير الديبلوماسية أن الولايات المتحدة «لديها شكوك بوجود بقايا لهذه الأسلحة، وأنها قد تكون ما تزال مخزنة ومخبأة، رغم التوصل إلى اتفاق على تفكيكها في السنوات الماضية، بعد تسوية رعتها روسيا لتجنب ضربة أميركية لسوريا في عام 2013». لكن الوثائق تكشف أيضاً أن الجانب الأميركي «يريد استجواب خبراء هذه الأسلحة السوريين وتحديد حركتهم، تحاشياً لاستخدام خبراتهم في إعادة إنتاجها لمصلحة النظام الجديد أو لحساب مجموعات إرهابية».
ويشير ديبلوماسي في إحدى البرقيات أن «تقدير بأن يكون الأميركيون قد التقطوا لحظة انهيار النظام السابق لإقامة قنوات اتصال «شخصية» مع الديبلوماسيين السوريين بهدف شراء ولائهم، لا سيما أن الكثير من هؤلاء عاشوا مرحلة ضياع في المرحلة الانتقالية الفاصلة، والعديد منهم لم يكونوا قد تلقوا رواتب لشهور عدة.
وأن الجانب الأميركي يتعامل مع الحاصل في سوريا على أساس ما جرى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، عندما جرى أكبر اختراق أميركي للنخبة السياسية والديبلوماسية الروسية واستقطاب خبراء الأسلحة الإستراتيجية».
قطر والإمارات تسهّلان التواصل مع إسرائيل:
أمن الكيان ومحاصرة المقاومة ورفات كوهين والجنود
يقول ديبلوماسيون عرب، إن الاتصالات تطورت سريعاً بين فريق الشرع وبين عواصم غربية، لا سيما ألمانيا وبريطانيا وفرنسا إلى جانب الولايات المتحدة، وكذلك جرت وساطة أمنت فتح خط اتصال عملي بين الشرع وبين دولة الاإمارات العربية المتحدة. وقد تولى الجانب الأوروبي البحث عن شكل من العلاقات الخاصة بعيداً عن الولايات المتحدة الأميركية.
لكن الجميع تحدث عن ضرورة أن تقدم الإدارة الجديدة الخطوات التي تدل على أنها تريد القطع نهائياً مع المناخ الإسلامي المعادي للغرب، والذي يخلق أرضية لعمل ضد المصالح الغربية بالإضافة إلى ملف العلاقات مع إسرائيل. وقد نقل مسؤول عربي عن ديبلوماسي غربي قوله إنه أبلغ القيادة السورية بأن التوغل الإسرائيلي في سوريا أمر مفهوم، لأن تل أبيب لا تريد أي مفاجآت، وهي تعتبر نفسها في حالة حرب، ولا تثق بقدرة السلطة الجديدة على ضبط الساحة السورية. وقد استغل هذا الكلام لتوجيه نصائح إلى الشرع بأن يبادر إلى خطوات عملانية تعكس رغبته في عدم خروج تهديد من سوريا ضد إسرائيل.
لكن البحث الجدي في هذا الأمر حصل مع الجانب الإماراتي، وتبين أنه وقبل زيارة الشرع إلى أبو ظبي، كانت الاجتماعات قد انطلقت، وتولى الإماراتيون القيام بوساطة «هدفت إلى وقف التقدم الإسرائيلي في مناطق الجنوب السوري ووقف الغارات الجوية» وهي «هدنة حصلت فعلياً قبل سفر الشرع إلى الإمارات، ولم يعد القصف إلا بعد اندلاع المواجهات مع الدروز في ريف دمشق والسويداء».
ويؤكد ديبلوماسيون عرب أن حصلت لقاءات بين شخصيات من إدارة الشرع ومسؤولين أميركيين وإسرائيليين في أبو ظبي، وأن البحث تناول أساس تفاهم غير معلن، يقود إلى إجراءات تحصل في سوريا من شأنها طمأنة إسرائيل. وقدم الأميركيون كل المغريات المطلوبة في حال أثبتت سلطة الشرع قدرتها على فعل ذلك، وقد انطلقت الاختبارات، عبر تعديلات في طريقة تعامل سلطة دمشق الجديدة مع الفصائل الفلسطينية في سوريا، وتذرعت بأن فصائل المقاومة ولا سيما الجهاد الإسلامي تريد استخدام الأراضي السورية لتنفيذ أعمال عسكرية ضد اسرائيل.
علما ان الوساطات الامنية كانت قد انتقلت الى مستوى استعداد سلطة دمشق للمساعدة على كشف أماكن رفاة جنود إسرائيليين فقدوا خلال الحرب على لبنان في عام 1982. وبحسب المصادر الديبلوماسية، فإن إدارة دمشق لم تقفل الأبواب أمام «وساطة إنسانية» ليتبين أنها تعنى باحتمال موافقة السلطة الجديدة على تسليم إسرائيل رفات العميل الشهير إيلي كوهين الذي اعتقل وأعدم في سوريا في القرن الماضي. والذي تسعى إسرائيل إلى استعادته منذ عقود طويلة، كان الأسد الأب والابن يرفضان ذلك.
ويبدو أنّ موضوع التواصل بين إسرائيل والشرع لا يقتصر على الإماراتيين، حيث نشرت صحافة إسرائيلية أمس أن الحكومة القطرية سهّلت عقد لقاءات «تعارفية» بين مسؤولين سوريين ومسؤولين إسرائيليين في العاصمة القطرية. ونقلت «هآرتس» عن مصدر لم تسمّه بأنّ الاجتماع حصل على «مستوى مسؤولين أمنيين، وأن الهدف منه إنشاء قناة نقل رسائل ومنع التصعيد».
لكن الأهم في كل ما يحصل، هو أن الوسطاء الغربيين لا يجدون أنفسهم في حاجة إلى ممارسة أي ضغط لإفهام سلطة الشرع بأنه يجب ألا يضع أمامه مهمة إعادة بناء جيش قوي، وأنه لن يجد في المدى المنظور من يبعيه السلاح النوعي. مع إغراءات من أجل مساعدته في بناء أجهزة أمنية وشرطية تتولى الأمور الداخلية.