عاجل:

عندما يدير الذكاء الاصطناعي "حروب المستقبل": يعيد تعريف مفاهيم القوة والردع ويتحكم بزمن القرار (خاص)

  • ٩٥

خاص ـ "إيست نيوز"

عبير درويش

لم تعد الحروب في القرن الحادي والعشرين تُقاس فقط بعدد الجنود أو حجم الترسانة العسكرية، بل أصبحت تُقاس بقدرة الدول على التحكم في الزمن نفسه. ففي عالم تتدفق فيه البيانات بسرعة غير مسبوقة، بات الذكاء الاصطناعي العامل الأكثر تأثيرًا في تحديد من يرى أولًا، ومن يفهم أسرع، ومن يتخذ القرار قبل خصمه. هذا التحول العميق يفسّر احتدام التنافس بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي حول السيطرة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، بوصفها أساسًا جديدًا للقوة العسكرية والسياسية، لا مجرد أدوات تقنية مساعدة.

العقيدة العسكرية الأميركية: التفوق في القرار قبل التفوق في السلاح

تنظر الولايات المتحدة إلى الذكاء الاصطناعي كامتداد طبيعي لتفوّقها العسكري التقليدي، لكن بصيغة أكثر تطورًا. فالعقيدة العسكرية الأميركية الحديثة تقوم على مفهوم “التفوّق في اتخاذ القرار”، أي القدرة على جمع المعلومات وتحليلها واتخاذ القرار والتنفيذ خلال زمن أقصر من الخصم.

في هذا السياق، يشير بول شار، الخبير في شؤون الأمن القومي والحرب المستقبلية ومدير برنامج التكنولوجيا والأمن في مركز الأمن الأميركي الجديد (CNAS)، إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يغيّر أدوات الحرب فحسب، بل يعيد تشكيل إيقاعها بالكامل. فبحسب تحليله، الدولة التي تمتلك خوارزميات قادرة على تحليل ساحة المعركة لحظيًا ستكون قادرة على فرض مسار الصراع حتى في غياب التفوق العددي أو الناري.

الذكاء الاصطناعي في نظر القيادات العسكرية الأميركية

يتقاطع هذا الطرح مع رؤية الجنرال الأميركي المتقاعد جاك شاناهان، المدير السابق لمركز الذكاء الاصطناعي المشترك في وزارة الدفاع الأميركية، الذي يرى أن الذكاء الاصطناعي لا يُستخدم بوصفه “آلة مستقلة للقتل”، بل كأداة استراتيجية تُسرّع القيادة والسيطرة وتقلّص الفجوة الزمنية بين المعلومة والقرار.

ويحذّر شاناهان من أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في أن يتفوّق خصم ما في سرعة استخدامه بينما يتأخر الطرف الآخر بسبب التردد السياسي أو القيود البيروقراطية.

الصين والحرب الذكية: إعادة تعريف التفوق العسكري

في المقابل، تنظر الصين إلى الذكاء الاصطناعي كفرصة تاريخية لإعادة تشكيل ميزان القوة مع الولايات المتحدة. فبدل محاولة مضاهاة التفوق العسكري الأميركي التقليدي، تسعى بكين إلى القفز مباشرة إلى جيل جديد من الحروب، حيث تصبح الخوارزميات والبيانات عنصر الحسم الأساسي. ويرى الباحث العسكري الصيني لوو يوان، المحسوب على دوائر التفكير الاستراتيجي في بكين، أن الذكاء الاصطناعي يمكّن الصين من تعويض الفجوات التقليدية عبر ما يسميه “الحرب الذكية”، وهي حرب تُدار بالعقل الحسابي قبل أن تُدار بالقوة النارية.

دمج المدني بالعسكري: السمة الفارقة للنموذج الصيني

تعزّز الصين هذا التوجه من خلال سياسة دمج القطاعين المدني والعسكري، حيث تتحول الابتكارات التجارية في مجالات الذكاء الاصطناعي إلى جزء من المنظومة الدفاعية. هذا النموذج يمنح بكين قدرة كبيرة على توظيف البيانات الضخمة والخوارزميات المتقدمة في مجالات الاستطلاع والتنبؤ والتخطيط، ويجعل الحدود بين الاستخدام المدني والعسكري للتكنولوجيا أقل وضوحًا مقارنة بالنموذج الغربي.

الاتحاد الأوروبي: قوة التنظيم في مواجهة قوة السرعة

أما الاتحاد الأوروبي، فيتخذ مسارًا مختلفًا. فعلى الرغم من غياب قوة عسكرية موحدة تضاهي الولايات المتحدة أو الصين، يمتلك الاتحاد ثقلًا قانونيًا وتنظيميًا مؤثرًا. ويرى باحثون أوروبيون، من بينهم أولريش كوهين من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أن أوروبا قد لا تربح سباق السرعة، لكنها قد تربح سباق القواعد. ويرتكز الرهان الأوروبي على وضع أطر قانونية وأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك في المجال العسكري، بهدف الحد من مخاطر فقدان السيطرة البشرية على القرارات المصيرية.

ما بعد الجبهة العسكرية: حرب البيانات والوعي

لا تقتصر حروب الذكاء الاصطناعي على ساحات القتال التقليدية. فجزء كبير منها يدور في الفضاء السيبراني وفي مجال المعلومات. يشير إريك شميت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة غوغل والرئيس السابق للجنة الأمن القومي الأمريكي للذكاء الاصطناعي، إلى أن الصراع القادم قد يُحسم قبل أن تبدأ الحرب فعليًا، من خلال السيطرة على البيانات والبنية الرقمية والتأثير في وعي المجتمعات. في هذا السياق، تتحول الخوارزميات إلى أداة قوة سياسية واقتصادية لا تقل أهمية عن السلاح العسكري.

مخاطر التسارع: عندما تتجاوز الخوارزميات السياسة

يثير هذا التحول قلقًا متزايدًا لدى خبراء الأمن الدوليين. فسرعة القرار التي يتيحها الذكاء الاصطناعي قد تقلل من الأخطاء البشرية، لكنها في الوقت ذاته قد ترفع احتمالات التصعيد غير المقصود إذا اتخذت الأنظمة قرارات متتالية خلال أجزاء من الثانية دون وقت كافٍ للتقييم السياسي أو الدبلوماسي. لذلك يحذّر بول شار وغيره من أن العالم قد يواجه شكلًا جديدًا من عدم الاستقرار الاستراتيجي، يشبه بدايات العصر النووي، لكن بأدوات رقمية.

من يسيطر على عقل الحرب؟

في المحصلة، لا يبدو أن العالم متجه إلى حرب عالمية تقليدية تقودها الجيوش والدبابات، بل إلى صراع طويل الأمد حول من يسيطر على عقل الحرب نفسه.

الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية مساعدة، بل أصبح عنصرًا بنيويًا يعيد تعريف مفاهيم القوة والردع وزمن القرار. وفي هذا العالم الجديد، قد لا يكون السؤال من يمتلك السلاح الأقوى، بل من يمتلك الخوارزمية الأذكى، ومن يستطيع استخدامها بحكمة قبل أن تتحول السرعة إلى خطر يهدد الاستقرار الدولي.

المنشورات ذات الصلة