عاجل:

بعدما "حوكِم" التحذير و"سُوِّغ" الانهيار: من دعوى باسيل إلى قانون "الانتظام المالي" ... الى تشريع الخسائر!؟ (خاص)

  • ٣٥

خاص ـ "إيست نيوز"

عصام شلهوب

بدأ الانهيار قبل سنوات من وقوعه، وتشكّل على مهل في دفاتر الدولة، وفي موازنات تُقرّ بالعجز، وفي سياسات استدانة استُخدمت لتمويل الإنفاق لا لبناء الاقتصاد. لم يكن ما حصل عام 2019 حادثاً مفاجئاً، بل نتيجة مسار طويل جرى التحذير منه، ثم جرى إسكات من حذّر.

خرج التحذير عام 2014 من داخل النظام المالي نفسه، عندما أعلن رئيس جمعية مصارف لبنان آنذاك، فرنسوا باسيل، موقفاً غير مسبوق، انتقد فيه السياسات المالية العامة، معتبراً أنها أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس، ومتحدثاً عن هدر وفساد في إدارة المال العام. لم يسمِّ أشخاصاً، ولم يوجّه اتهامات فردية، بل وصف نموذجاً قائماً على الاستدانة المتواصلة والإنفاق غير المنتج.

بدلاً من فتح نقاش وطني حول جوهر ما قيل، انتقلت الدولة إلى موقع المتضرّر. تقدّم النائب هاني قبيسي بشكوى قدح وذم بحق باسيل، رغم أن الكلام لم يستهدف نائباً بعينه، بل شمل الأداء السياسي والمالي العام. هنا، برز السؤال الجوهري: لماذا قبيسي تحديداً؟ ولماذا تحوّلت المساءلة السياسية إلى ملاحقة قضائية؟

أُحيل باسيل إلى القضاء، ثم أُغلقت القضية بعد اعتذاره وتوضيحه أنه قصد السياسات لا الأشخاص، وسُحبت الشكوى سريعاً. شكلياً، انتهى الملف. لكن عملياً، كُرّس مبدأ بالغ الخطورة: تُحاسَب الكلمات، ويُعفى الفعل. يُلاحَق من يحذّر، ولا يُسأل من استدان وأنفق وشرّع.

في تلك المرحلة، كانت الدولة اللبنانية المستفيد الأول من النظام المالي. كانت تصدر سندات خزينة بفوائد مرتفعة، وكان البرلمان يقرّ الاستدانة ويشرّع العجز، وكانت المصارف توظّف ودائع الناس في دين سيادي مضمون بالقانون وبمصرف لبنان. لم يكن ذلك سراً ولا تجاوزاً، بل سياسة رسمية مكتملة الأركان.

تكتسب حادثة باسيل – قبيسي اليوم معناها الحقيقي عند ربطها بما يجري راهناً. فالدولة نفسها التي كانت تستدين وتنفق، وتحتمي بالشرعية التشريعية، تحاول اليوم التنكّر لمسؤوليتها عن الخسائر، وتقدّم نفسها كضحية لانهيار تصوّره تقنياً أو مصرفياً، لا كنتيجة مباشرة لخياراتها.

يأتي مشروع قانون “الانتظام المالي” في هذا السياق لا كقطيعة مع الماضي، بل كامتداد له. فهو لا يحدّد بوضوح مسؤولية الدولة عن الدين العام، ولا يُخضع السلطة السياسية للمساءلة، بل يعيد توزيع الخسائر بطريقة تُثقل كاهل المجتمع والمودعين، وتُخفّف العبء عن من قرّر وسيّر وأنفق.

هنا، تعود حادثة 2014 لتُقرأ كوثيقة إدانة لا كحادث عابر. يومها، عوقب التحذير لأنه كسر الصمت. واليوم، يُشرعن الانهيار بقانون. يومها، رُفض النقاش في السياسات، واليوم يُعاد إنتاجها بنصوص تشريعية.

لم تكن المشكلة في ما قاله باسيل، بل في ما كشفه. ولم يكن سحب الشكوى دليلاً على براءة السياسات، بل على الرغبة في طيّ الملف قبل أن يتحوّل إلى مساءلة حقيقية. أما اليوم، فإن محاولة تحميل الخسائر للمودعين والمجتمع، عبر قوانين تُكتب بعد الانهيار، ليست سوى استكمال لمسار بدأ بالاستدانة، ومرّ بالإنكار، ويصل الآن إلى تشريع التنصّل من المسؤولية.

في المحصّلة، لم تُحاسَب الدولة لأنها استدانت وأنفقت. لم يُحاسَب البرلمان لأنه شرّع العجز. ولم يُحاسَب من أدخل البلد في الانهيار. وحدها الحقيقة تأخرت، لكنها لم تسقط: الانهيار لم يكن قدراً، بل خياراً، ومن حذّر منه حوكِم، فيما من صنعه يُكافأ بالقانون.

المنشورات ذات الصلة