عاجل:

المجتمع الأهلي والمبادرات الشبابية: هل هي ظاهرة مؤقتة أم بداية لنموذج جديد؟ (خاص)

  • ٨٧

خاص- "ايست نيوز"

 عبير درويش

في حيّ ضاحٍ صغير في بيروت، يضطر الأهالي للاعتماد على مولد كهربائي خاص بعد انقطاع التيار لساعات طويلة. جارة تجمع التبرعات لتأمين دواء للمرضى، وشباب ينظّفون الشوارع بمبادرة محلية، كل هذا يحدث في ظل غياب شبه كامل للدولة اللبنانية، التي لم تعد حاضرة إلا في العناوين الرسمية والخطابات الصحافية. في هذا الواقع الجديد، تظهر دولة من الأسفل، تُدار من داخل الأحياء لا من مؤسسات رسمية، ما يعيد صياغة الحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان.

دولة غائبة… ومواطن يدير أزمته بنفسه

تدهور البنى التحتية والخدمات الأساسية لم يعد مفاجئاً. الكهرباء شبه معدومة، المياه متقطّعة، الطرق متكسّرة، والأسعار بلا رقابة. شركة الكهرباء الرسمية، Électricité du Liban، لم تتمكن من توفير سوى ساعات قليلة من التيار يومياً—في كثير من الحالات ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات فقط—مما دفع الأسر إلى الاعتماد بشكل كامل على بدائل خاصة.

بحسب منظمات حقوقية، باتت أزمة الكهرباء في لبنان واحدة من الانتهاكات الأساسية لحق الناس في مستوى معيشي لائق، إذ أن الشركات الخاصة للمولدات أصبحت المصدر الرئيسي للطاقة، وتصل قيمتها إلى حوالي 3 مليارات دولار في سوق غير منظّمة.

المولدات: “دولة داخل الدولة”

أصحاب المولدات الكهربائية لم يعودوا مجرد مزوّدين للكهرباء؛ بل سلطة محلية قائمة بذاتها:

• يشرفون على التنظيم والمحاسبة داخل الحي

• يفرضون أسعار الاشتراك ووقت التغذية

• يضعون قواعد وحتى “عقوبات” محلية

في غياب دولة قادرة على إدارة قطاع الكهرباء، تحوّل المولد إلى نموذج مصغر عن دولة بديلة تتولى مهام حيوية لا يمكن للسلطة الرسمية تأمينها.

الأحزاب: خدمات مكبّرة ونفوذ متزايد

مع ضعف الدولة، توسّع دور الأحزاب في تقديم خدمات اجتماعية واقتصادية بديلة:

• مساعدات غذائية ومالية

• مراكز طبية

• مدارس ومؤسسات تعليمية

• دعم للعائلات المحتاجة

وهكذا، لا توفّر الأحزاب هذه الخدمات من باب العطاء فقط، بل كسباً لـ نفوذ اجتماعي وسياسي داخل الأحياء، ما يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة—أبتداءً من الحزب وليس من الدولة.

بعض هذه المؤسسات الحزبية يتجاوز تقديم الخدمات إلى شكل من بناء مجتمع موازٍ يعزز الولاء وينسج شبكات دعم اجتماعي خاصة بهم.

المجتمع الأهلي والمبادرات الشبابية: من الإنقاذ إلى الإدارة

في مقابل الأحزاب والمولدات، برز القطاع المدني بوجهه الأوسع من مجرد جمعيات رسمية:

• لجان أحياء تدير الأمن الليلي

• مبادرات لتنظيف الشوارع والملاعب

• مجموعات تطوعية تؤمّن الغذاء والدواء

• مشاريع محلية لإعادة تأهيل منازل وتعزيز التضامن

بحسب دراسات لبنانية، تميل هذه المنظمات إلى توسيع قدراتها للتعامل مع الأزمات المتشابكة التي تعرّضت لها البلاد خلال السنوات الماضية، لكنها تواجه تحديات تهديد استدامتها مثل هجرة الكفاءات ونقص الموارد.

تحولات اجتماعية في عمق الأحياء

في غياب مؤسسات الدولة القادرة، يعتمد الناس بشكل أكبر على شبكات الدعم المجتمعي المحلية—علاقات الجيرة، مجموعات التضامن، والشبكات غير الرسمية التي تُموَّل وتُدار من المجتمع نفسه. تظهر شخصيات محلية جديدة تلعب دوراً قيادياً في حيّز واسع، ويبرز مفهوم “القيادة المجتمعية” كبديل فعلي للهيكل الرسمي.

رأي الخبراء: ماذا يعني هذا التحوّل؟

خبراء في السياسة اللبنانية يرون أن ما يحدث ليس فقط فراغاً مؤقتاً، بل إعادة ترتيب للسلطة والمواطنة خارج المؤسسة الرسمية، وأن هذا التحوّل يتطلّب إعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع من جديد. بحسب مسؤول عسكري محترف، فإن قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة هي جوهر الشرعية وتأسيس سيادة حقيقية؛ وغياب ذلك يجعلها عاجزة أمام قوى غير حكومية أو بديلة.

من منظور التنمية، يشدد خبراء المجتمع المدني على أن المؤسسات المحلية تمكّنت من التكيّف والإبداع في ظل الأزمات، ولكنها تبقى عرضة للاهتزاز بسبب ضعف التمويل وهجرة المهارات—وهو ما يعكس عمق الأزمة الهيكلية في البلاد .

هل هذا الواقع مؤقت أم بداية لنموذج جديد؟

السؤال الأكبر اليوم هو: هل يمكن لهذا النموذج الاجتماعي الجديد أن يستمر؟ في ظل استمرار ضعف مؤسسات الدولة، قد يتحول هذا النظام إلى واقع دائم يعيد تشكيل مفهومي المواطنة والسلطة في لبنان. لكن من ناحية أخرى، غياب الإطار القانوني والتنظيمي لهذه البنى المحلية يجعلها غير مستقرة وقد تندثر إذا ما تعافىت الدولة أو تغيّرت الظروف السياسية فجأة.

خاتمة

لبنان اليوم يعيش مرحلة انتقالية حاسمة: تنهار الدولة من الأعلى، وينهض المجتمع من الأسفل بأدواته الذاتية. لكن هذا الانبعاث الاجتماعي يفتقر إلى ضمانات وقوة مؤسساتية تُؤَمن استدامته وتعطيه شرعية حقيقية. في ظل غياب الحلول المركزية، قد تظل هذه “الدولة الموازية” أشبه بجسر عبور—نظام موقت يساعد الناس على البقاء، لا سياسة دائمة تُعيد بناء الدولة.


المنشورات ذات الصلة