عاجل:

مستوصفات الرعاية الأولية تحت المجهر... دواء منتهي الصلاحية... الصحة العامة على المحك (خاص)

  • ٥٤

خاص -"إيست نيوز"

في بلدٍ يترنّح قطاعه الصحي على المحكّ، خرجت إلى العلن ظاهرة أخطر بكثير مما تبدو على السطح: مستوصفات للرعاية الأولية، تعمل تحت إشراف وزارة الصحّة العامّة، توزّع أدوية منتهية الصلاحية على المرضى بحجّة "الظروف الإستثنائية" ونقص الأدوية. خطوةٌ تُقدَّم على أنها اضطرارية، لكنها تضع الحقّ الأساسي في العلاج أمام سؤال كبير: هل باتت صحة اللبنانيين مادّة للتجربة تحت ضغط الأزمة؟

هذه المستوصفات، ومعظمها تابع لجمعيات دينية ومدنية، تؤكّد أنّها عالقة بين خيارين أحلاهما مُرّ:

إما حرمان المريض من العلاج بالكامل، أو إعطاؤه دواءً انتهت صلاحيته منذ فترة قصيرة.

من حيث المبدأ، يبدو التبرير إنسانيًا. لكنّ التفصيل الأخطر يكمن في أن المريض نفسه لم يعد يملك رفاهية اختيار ما يدخل جسده. فالفقير، والمسنّ، والمريض المزمن… جميعهم يقفون أمام معادلة قاسية: إمّا قبول الدواء المنتهي أو الاستسلام للمرض.

موافقة تحت الضغط: هل هي موافقة فعلًا؟

تطلب بعض المراكز من المريض توقيع ورقة تُثبت أن الدواء صُرف له بناءً على “موافقته”. لكنّ السؤال الجوهري يبقى:

هل يُعدّ المريض الذي لا يملك ثمن الدواء قادرًا على الرفض أصلًا؟

إنها موافقة شكلية أكثر منها فعلية، إذ تأتي في سياق انعدام الخيارات. وهنا يتحوّل المريض من صاحب حق إلى طرف ضعيف يحمّله النظام مسؤولية ما لا يستطيع تغييره.

فراغ الدولة: وتحوّل الاستثناء إلى قاعدة

الأخطر أن هذه الظاهرة لا تحصل في الظلّ. فالمستوصفات، ولو بإمكانيات متفاوتة، تعمل “تحت إشراف” وزارة الصحة.

لكن هل هذا الإشراف فعلي؟

هل تعلم الوزارة وتغضّ النظر؟

أم أنها فقدت القدرة على الرقابة وأصبحت المتابعة مجرّد أوراق مكدّسة في الملفات؟

ما يحصل اليوم يشي بأنّ الاستثناء بات قاعدة، وأنّ القبول بما لا يجوز القبول به أصبح سياسة عامة غير معلنة.

خبراء يحذّرون: فعالية متدهورة… ومخاطر كامنة

يؤكّد اختصاصيون أن الأدوية المنتهية قد تفقد جزءًا كبيرًا من فعاليتها، ما يعني:

استمرار المرض دون علاج فعلي.

تضاعف الأعراض.

احتمالات تفاعلات غير متوقعة نتيجة تغيّر التركيبة الكيميائية.

وتزداد خطورة الأمر مع أدوية القلب والضغط والسكري والهرمونات والمضادات الحيوية، حيث يصبح الفارق بين العلاج والضرر مسألة أيام.

خط أحمر صحي: شهادات تكشف أخطر ما يدور في كواليس الدواء المُنتهي والمهرّب

وفي سياق مُتابعة الملفّ، أفادَ صيدلي فضّل عدم الكشف عن اسمه لـ "إيست نيوز" بأنّ مسألة الأدوية المُنتهية الصلاحية برزت بشكل أكبر خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيّما في ظلّ الحرب والأزمة التي انعكست مباشرة على المخزون الدوائي في لبنان. وأوضح أنّ بعض الأصناف، خصوصًا الأدوية على شكل حبوب، قد تبقى فعّالة لفترة تمتدّ لستّة أشهر إضافية بعد انتهاء تاريخها المدوّن، شرط أن تكون مُخزّنة بطريقة صحيحة، ما يجعل ضررها "محدودًا نسبيًا" مُقارنة بالانقطاع الكامل للعلاج.

لكنّه شدّد على أنّ هذا الاستثناء لا يمكن أن يُطبَّق مطلقًا على أدوية السرطان، والحقن، والأدوية السائلة، والمضادات الحيوية المعلّقة، والهرمونات، إذ إنّ أي تراجع في فعاليتها "قد يحوّل العلاج إلى خطر مباشر على حياة المريض"، وبالتالي "لا يُسمح بالاقتراب منها أو صرفها تحت أي ظرف".

وأضاف الصيدلي موضحًا أنّ هناك فئات لا يجوز إطلاقًا أن تتناول أي دواء منتهي الصلاحية مهما كان نوعه، وتشمل:

مرضى السرطان، مرضى القلب والضغط، مرضى السكري خصوصًا مستخدمي الإنسولين، مرضى الفشل الكلوي أو الكبدي، مرضى الأمراض المناعية، والأطفال، والنساء الحوامل، وكبار السنّ، ومرضى الصرع أو المميعات أو الهرمونات أو أي علاج يتطلب جرعات دقيقة وثابتة. وأشارَ إلى أنّ أي تراجع بسيط في فعالية الدواء لدى هؤلاء المرضى قد ينعكس مضاعفات خطيرة أو مباشرة على حياتهم.

وأشارَ الصيدلي إلى ملفٍّ أخطر بكثير من قضية الدواء المنتهي، وهو ملفّ الأدوية المُهرَّبة من تركيا وسوريا وإيران، مُحذّراً من أن هذه الأصناف قد تكون مزوّرة، أو غير مطابقة للمواصفات، أو غير معروفة المصدر، أو حتى ملوَّثة، وقد تُدخل إلى لبنان بطرق لا تخضع لأي رقابة أو فحص مخبري. وأضافَ: "هذا الملفّ يجب أن يُفتح بشكل عاجل، فخطر الأدوية المهرّبة قد يفوق بأشواط خطر الدواء المنتهي الصلاحية، لأن المريض قد يتناول مادّة ليست أصلًا الدواء الذي يعتقده".

وخَتَمَ بالتأكيد أنّ حماية صحّة اللبنانيين تبدأ من تشديد الرقابة، ضبط حركة السوق، منع التهريب، ومُحاسبة كل جهة تتلاعب بلقمة عيش الناس الصحية، لأن "الأزمة مهما اشتدّت لا يمكن أن تكون ذريعة لترك المرضى يواجهون المجهول".

رقابة مفقودة: ومسؤوليات عاجلة

المشكلة ليست فقط في المستوصفات. إنها أزمة رقابة بامتياز. فالمراكز التي تعمل تحت إشراف وزارة الصحة يُفترض أن تخضع لجولات تفتيش دورية، لتدقيق المخزون، وفحص ظروف التخزين، وآلية الصرف.

لكن الواقع يكشف أن الرقابة إمّا شكلية وإمّا غائبة.

وحتى لو كانت الأزمة الاقتصادية خانقة، إلا أنّ القانون لا يُعلَّق، ولا يجوز للمريض أن يتحمّل نتائج انهيار المنظومة. لذلك يصبح فرض رقابة صارمة ضرورة تشمل:

زيارات تفتيش فجائية.

إغلاق أي مركز يصرف دواءً منتهي الصلاحية.

إنشاء خط ساخن للإبلاغ عن المخالفات.

نشر تقارير رقابية دورية.

محاسبة الجمعيات المخالفة إداريًا وقضائيًا.

فالقطاع الصحي لا ينهار حين تنفد الأدوية فقط… بل حين يغيب من يحاسب من يصرفها.

المسؤولية لا تتوقف عند المستوصفات

التقصير الرسمي في إدارة ملف الدواء، وصعوبات الاستيراد، وغياب الخطط البديلة، كلها عوامل تدفع المؤسسات إلى خيارات غير آمنة. وكلما ضعف دور الدولة، ازدادت الفوضى، وتحوّلت صحة اللبنانيين إلى مساحة تُدار بـ"الاجتهاد" لا بالقانون.

المطلوب اليوم ليس فقط معالجة حالة فردية، بل إعادة إحياء مفهوم الحماية الصحية، وإطلاق آليات تمنع تكرار ما حصل، وتضمن أن لا يكون المريض الحلقة الأضعف في أي أزمة.

السؤال الذي لا يمكن الهروب منه

عام ٢٠٢٥ كان قاسياً على اللبنانيين، لكنّ أخطر ما ظهر فيه هو تعويد الناس على التساهل في ما لا يجوز التساهل فيه. القبول بصرف دواء منتهي الصلاحية ليس تفصيلاً، إنّه جرس إنذار.

فهل وصل لبنان إلى مرحلة يصبح فيها بقاء المريض مجرّد "تجربة كيميائية" تُجرى على جسده باسم الظروف، وإذا كان الدواء المُنتهي قد أصبح مقبولًا، فما الذي سيسقط بعده من معايير، ومن يحمي المواطن من الإنهيار التالي؟


المنشورات ذات الصلة