عاجل:

نزوح "صامت" من الضاحية: كيف تعيد مخاوف الأمن وضغط المعيشة رسم الجغرافيا السكانية في لبنان؟ (خاص)

  • ٧٩

خاص – "ايست نيوز"

عبير درويش

في شارع ضيق في الضاحية الجنوبية لبيروت، تبدو الشقق شبه خالية، والعائلات تحزم أغراضها في صمت، بينما شباب يحملون حواسيبهم للعمل عن بُعد في طريقهم نحو المناطق الجبلية أو الساحلية. هذا المشهد يعكس موجة نزوح داخلي غير معلَنة يعيشها لبنان منذ أشهر، تتضح من خلال شقق تُخلى، وبلدات تستقبل عائلات جديدة، ومحال تغيّر زبائنها وتركيبتها الاجتماعية.

ورغم غياب أي إعلان رسمي، باتت هذه الحركة السكانية “الصامتة” تُعيد رسم خريطة البلد من الداخل، بل وتخلق واقعاً سكانياً جديداً.

أولاً: الأمن… الهاجس الذي لا يُقال جهراً

الخوف من التصعيد والاحتكاك الأمني هو الدافع الأكبر للنزوح الداخلي.

وفق تقديرات منظمات دولية (في تقارير 2023–2024 قبل توسّع التوترات الأخيرة)، فإن حوالي 40% من الأسر في الضواحي "تفكّر جدّياً بالانتقال" لأسباب أمنية.

أما اليوم، ومع اتساع المخاوف من أن تتحول بعض المناطق إلى خطوط تماس محتملة، تسجّل مناطق مثل الضاحية الجنوبية، أطراف بيروت، والنبطية حركة خروج ملحوظة نحو الجبل والساحل.

يقول أحد الباحثين الأمنيين مركز Crisis Group)) ،"الناس لا ينتظرون الانفجار ليتحركوا. يكفي الشعور بأن منطقة ما قد تصبح هدفاً ليدفع العائلات للرحيل."

ثانياً: ضغط الحياة اليومية في الضواحي… معركة لا تنتهي

الأمن ليس وحده العامل. فالضواحي أصبحت بيئة مرهقة على جميع المستويات:

• ازدحام خانق

• ضوضاء مستمرة

• خدمات ضعيفة

• انقطاع مياه وكهرباء

• ارتفاع الإيجارات

• تلوث متصاعد

وفق البنك الدولي، يحدث انقطاع كهرباء لأكثر من 20 ساعة يومياً في بعض الضواحي، ما يرفع كلفة الكهرباء الخاصة إلى أرقام خانقة.كما ارتفعت الإيجارات في ضواحي بيروت بنسبة 25% خلال عامين رغم سوء الخدمات. وهذا الواقع جعل كثيرين—خصوصاً العائلات الشابة—يبحثون عن بيئة أكثر هدوءاً وتوازناً.

ثالثاً: إلى أين ينزح اللبنانيون؟

الوجهات الأكثر استقطاباً:

الجبل:

• عاليه

• المتن

• كسروان

• بحمدون

• الشوف

الساحل الشمالي والجنوب الأقرب إلى بيروت:

• جبيل

• البترون

• خلدة

• الجيّة

لماذا هذه المناطق؟

• هواء أنقى

• أحياء أقل ازدحاماً

• مدارس خاصة وحكومية أفضل نسبياً

• إيجارات أقل بـ 20 – 40% مقارنة بضواحي بيروت

• خدمات أكثر انتظاماً في بعض القرى

بحسب استطلاع لـ LCPS عام 2024، نحو 28% من اللبنانيين فكّروا أو خططوا للانتقال من مدينتهم نحو الجبل أو الساحل بحثاً عن جودة حياة أفضل.

رابعاً: جيل جديد يعيش بين الطبيعة والعمل عن بُعد

إحدى الظواهر اللافتة هي اتجاه الشباب نحو الجبل والساحل بفضل العمل عن بُعد وتشير بيانات شركات التوظيف الرقمية إلى أن نسبة العاملين عن بُعد في لبنان ارتفعت 300% منذ 2020، ما جعل السكن خارج بيروت خياراً ممكناً دون خسارة الوظيفة. ولذلك كله، نشأ نمط حياة جديد: الجبل للعمل… والعالم عبر الحاسوب.

خامساً: تأثيرات مباشرة على الضواحي وبيروت

في الضواحي:

• انخفاض الطلب على الإيجار بنسبة 10–15%

• تراجع الحركة التجارية خاصة في محال المواد الغذائية

• إقفال عشرات المحال الصغيرة

• تغيّر التركيبة الاجتماعية للأحياء

تقدّر نقابة أصحاب المحال أن نحو 12% من المؤسسات الصغيرة في الضواحي أغلقت بين 2022–2024.

في بيروت:

المدينة أيضاً تشهد موجة خروج، خصوصاً من الطبقة الوسطى التي تبحث عن كلفة أقل وهدوء أكبر.

سادساً: المناطق المستقبلة تتغير أيضاً

الانتقال الكبير خلق ضغطاً على المناطق التي تستقبل سكاناً جدد:

• ارتفاع الإيجارات في بعض القرى بنسبة 20%

• ازدحام المدارس

• ضغط على البنى التحتية

• تغيّر هوية البلدات اجتماعياً وثقافياً

يقول خبير العمران في الجامعة اللبنانية الدكتور أمين إلياس: أن “البلدات الجبلية التي كانت تستقبل سكاناً موسميين أصبحت اليوم تستقبل سكاناً دائمين، وهذا يغيّر الدورة الاقتصادية والاجتماعية بالكامل.”

ويضيف "أن الاهتمام بالديناميات السكانية وتوزيعها الجغرافي يعيد رسم خريطة التوازنات المجتمعية في لبنان، ويستدعي سياسات حضرية وخدماتية متكاملة لمعالجة آثار النزوح الداخلي وتداعياته".

كما تُشير خبيرة العمران الدكتورة منى حرب إلى أن التخطيط العمراني في لبنان يواجه تحديات كبيرة في استيعاب موجات النزوح من الضواحي إلى الجبال والساحل، الأمر الذي يتطلب استراتيجيات تنموية جديدة لتخفيف الضغط على الموارد والبنى التحتية.

سابعاً: رأي الخبراء—هل نحن أمام نزوح مؤقت أم هجرة داخلية طويلة الأمد؟

يرى خبراء في Crisis Group وLCPS وUN-Habitat أن:

• النزوح الداخلي في لبنان ليس طارئاً بل امتداد لمسار بدأ منذ 2019.

• العامل الأمني هو الوقود الأكبر للموجة الحالية.

• العامل المعيشي والخدماتي هو المحرّك الأساسي للاستقرار في المناطق الجديدة.

بحسب الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت ومرصد الحوكمة الرشيدة والمواطنة الدكتور سيمون كشر فإن النزوح الداخلي يعكس تحوّلاً في علاقة المجتمع بمكانه وسط أزمة ثقة بالسلطة الرسمية، حيث يبحث السكان عن “أمان اجتماعي وجغرافي” في مناطق أقل توتراً. ويضيف الدكتور كشر:

"إذا استمر غياب الدولة وتدهور الخدمات، سيصبح النزوح الداخلي جزءاً ثابتاً من الواقع اللبناني، ونشهد انتقال الثقل السكاني من المدن الكبرى إلى الأطراف."

خاتمة: لبنان يُعاد رسمه من الداخل… بصمت

ما نراه اليوم ليس مجرد انتقال من حيّ إلى آخر. لا بل فإنه إعادة رسم للجغرافيا الاجتماعية وفق الخريطة الآتية:

• ضواحٍ تخلو تدريجياً

• جبال وسواحل تنتعش

• مدن تعيد تعريف نفسها

• عائلات تبحث عن الأمان والهواء النظيف

• شباب يبنون حياة جديدة بين الطبيعة والعمل الرقمي

إنها حركة صامتة… لكنها تعيد تشكيل لبنان بيتاً بعد بيت، وعائلة بعد عائلة.


المنشورات ذات الصلة