عاجل:

خدمة العلم: بين وهم الانصهار وحقيقة الانفجار المقبل (خاص)

  • ٤٦

خاصّ ـ "إيست نيوز"

جوي ب. حداد

من جديد، يعود النقاش حول “خدمة العلم” كحلّ سحري لإعادة بناء الولاء الوطني.

دعوة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في حديثه الأخير، إلى إعادة العمل بالتجنيد الإلزامي "كي يتعلّق الشعب بلبنان"، أعادت طرح السؤال القديم - الجديد: هل تُربّى المواطنة بالفرض، أم تُبنى بالعدالة؟

الجواب واضح لمن يريد أن يرى: لا خدمة علم تُصلح دولة فقدت علمها، ولا تجنيد يعوّض غياب المساواة.

تجربة فاشلة ومُحاولة تسويق جديدة

التجنيد الذي طُبّق في التسعينيات لم يكن مشروعًا لبناء وطن، بل مشروعاً صاغه النظام الأمني اللبناني- السوري تحت عنوان "الانصهار الوطني"، وهو عنوان جميل يخفي خلفه وظيفة واحدة: الضبط والسيطرة.

لم يَخرج منه جيش احتياط، ولا مواطن جديد، بل آلاف الشباب الذين تحوّلوا إلى موظّفين مكتبيين، وحُجّاب في الوزارات، وأحياناً خدّاماً في بيوت الضباط وزوجاتهم.

هذه حقيقة يَعرفها كل من دخل تلك التجربة أو شاهدها عن قرب.

كيف يمكن إعادة إنتاج نموذج فشل في زمن كانت فيه الدولة أقوى والعسكر في وضع أفضل، لنفترض أنه سينجح اليوم في بلد منهار؟

الانصهار أم الانفجار؟

المُناداة بـ "الانصهار الوطني" تتجاهل حقيقة بسيطة:

لبنان لا يعيش بالذوبان، بل بالتنوّع والتكامل.

الانصهار يعني إلغاء الاختلاف لا احترامه، ويعني السعي إلى خلق "نسخة واحدة" من اللبناني، في حين أن قوّة لبنان التاريخية كانت دائمًا في تعدديته.

والأخطر: من يضمن أن خدمة العلم لن تتحوّل إلى ساحة اشتباك داخل الثكنات؟

ماذا سيحدث حين يلتقي شاب قاتل سابقاً ضمن "حزب الله" مع شاب مسيحي من خلفية حزبية ذات ذاكرة دامية معه؟

أي "وطن" سيجمعهم في غياب دولة قادرة على حماية مواطنيها وسحب السلاح غير الشرعي من الشارع قبل الثكنة؟

من خدمة العلم: إلى خدمة المحاور

في بلد تُمسك به قوة مسلّحة خارج الدولة قرار الحرب والسلم، يصبح أي نقاش حول التجنيد غير بريء سياسياً.

اليوم، خدمة العلم مهما تمّ تجميلها ليست إلا منصّة جديدة لتعزيز نفوذ محور الممانعة تحت غطاء الدولة.

فمن يملك السلاح خارج الشرعية، سيملك تلقائياً تأثيراً على أي منظومة تجنيد.

وهذا ليس رأياً بل واقعاً سياسيّاً يوميّاً.

ضريبة جديدة على أبناء الفقراء

حتى لو تجاوزنا السياسة، يبقى السؤال الأخطر: من سيدفع ثمن خدمة العلم؟

في بلد يبلغ الحدّ الأدنى للأجور ما لا يكفي أسبوعاً، سيحصل المُجنّد على راتب لا يتجاوز عشرة دولارات، فيما سيضطر أهله الفقراء لدفع تكاليف النقل واللباس والطعام والإحتياجات اليومية من جيوبهم.

هكذا تتحوّل "خدمة العلم" إلى ضريبة إجباريّة على الفقراء فقط، فيما أبناء الطبقات الميسورة سيجدون دائمًا طريقة للتفلّت منها.

أي عدالة في أن يُعاقَب ابن الفقير بسنة من عمره ولقمة أهله بحجّة "بناء الوطن"؟

تصحيح الوعي قبل فرض الواجب

ما يحتاجه لبنان ليس تجنيداً، بل إعادة بناء ما تهدّم:

تربية مدنية حقيقية

كتاب تاريخ موحّد

مُساواة تحت القانون

دولة تحمي الجميع بالتساوي

مؤسسات شفافة لا تشبه الإقطاع الجديد

أما إعادة طرح خدمة العلم في زمن الإنهيار، فهي مُحاولة لإعادة تدوير فكرة قديمة، وتعبئتها بعبارات رومانسية لا علاقة لها بالواقع.

لا يمكن لدولة لا تؤمّن الكهرباء، ولا العدالة، ولا الطبابة، أن تُطالب شبابها بأن "يتعلّقوا بها" تحت تهديد العقوبات أو الإجبار.

لبنان يحتاج خدمة وطن: لا خدمة علم

الولاء لا يُفرَض.

والتربية لا تأتي من البندقية.

والدولة لا تُبنى على أكتاف الفقراء وحدهم.

قبل أن نعيد خدمة العلم، فلنُعد بناء الدولة.

قبل أن نطلب من الشاب أن يخدم، فلنسأل:

مَن يَخدم مَن في هذا البلد؟

وقبل أن نفرض على الشاب اللبناني أن يحمل السلاح باسم الدولة، أليس الأجدر أن نسأل الدولة: أي دولة أنتِ… ومن يحمي المواطن منكِ قبل أن تطلبي منه أن يحميكِ؟

لبنان لا يحتاج إلى تجنيد جديد،

بل إلى وطن جديد يُشبه أبناءه، لا أبناء المحاور.

المنشورات ذات الصلة