خاصّ- "إيست نيوز"
جوي ب. حداد
في لحظة بدت استثنائية في توقيتها ورسائلها، أنهى الجيش اللبناني فصلًا طويلاً من مُلاحقة أحد أبرز المطلوبين في ملفّ المُخدّرات في البقاع، بعد توقيف نوح زعيتر بلا مُقاومة تُذكر.
مشهد لم يعتده اللبنانيون من رجل لطالما كان أيقونة الإفلات من العدالة، ومادّة دائمة للجدل بين النفوذ السياسي والمُعادلات الأمنية.
لكن خلف هذه الصورة الهادئة، تتفاعل أسئلة أكبر: لماذا الآن؟
وما علاقة هذا التطور بملفّات تتجاوز البقاع نحو دهاليز السياسة والسجون والتشريعات المُقبلة؟
سقوط آخر "الخطوط الحمراء" في البقاع
لم يكن استسلام زعيتر مُجرّد نجاح أمني. الرسالة كانت واضحة: الغطاء السياسي الذي وفّر لعشرات المطلوبين مساحة للتواري سنوات طويلة بدأ يتصدّع.
مصادر سياسية مطلّعة ترى أنّ توقيف زعيتر جاءَ تتويجاً لتغيّر في مزاج القوى التي شكّلت حماية فعلية لشبكات المخدرات. الضغوط الخارجية، وتبدّل مراكز القوى، وهشاشة التحالفات التقليدية، كلها عوامل دفعت نحو مُقاربة جديدة.
كما أنّ العمليات العسكرية الأخيرة، ولا سيّما "عملية الشراونة" التي سقط فيها شهيدان للجيش وعدد من الجرحى، أعادت تكريس صورة الدولة القادرة على كسر “الاستثناءات” التي لطالما حكمت بعض المناطق.
محاولة لتغيير السردية: هروبٌ إلى الأمام؟
في هذا السياق، لوحظ أن الماكينات الإعلامية التابعة للثُنائي تحاول الترويج لمنطق "٦ و٦ مكرّر" في ملفّ الاتجار بالمُخدّرات بعد القبض على نوح زعيتر، بهدف تخفيف وطأة توقيف رؤساء عصابات الخطف والسرقة والمُخدّرات الذين ينشطون داخل بيئتها.
هذا السلوك يعكس مُحاولة واضحة لإعادة تدوير الخطاب وتوزيع المسؤوليات بالتساوي، بما يخفّف الضغط الشعبي والسياسي الناتج عن سقوط أحد أبرز المطلوبين في تلك البيئة.
الملاذ السوري يقفل أبوابه: والعودة القسرية
لسنوات، كانت سوريا تُشكّل الملاذ الأكثر أمانًا لكبار المطلوبين. لكن المتغيّرات الأخيرة على الحدود، وتشدّد دمشق، وتراجع نفوذ الجهات التي كانت تؤمّن الحماية، جعلت الهروب مُستحيلاً.
وبغياب "طريق النجاة"، تصبح العودة إلى لبنان خطوة اضطرارية لا خياراً مدروساً.
توقيتٌ ليس بسيطاً: تسويات قيد التحضير؟
لا أدلّة حاسمة على وجود صفقة، لكن المؤشّرات كثيرة. فاللحظة السياسية تتقاطع مع فتح ملف الموقوفين السوريين ومع مسعى قضائي بين بيروت ودمشق يعيد المحكومين السوريين إلى بلادهم. هذا الأمر يُخفّف اكتظاظ السجون اللبنانية، ويفتح الباب أمام نقاشات حسّاسة: العفو العام، تقصير السنة السجنية، تعديل العقوبات، وحتى إلغاء الإعدام.
نموذج سابق: الشيخ أحمد الأسير
ليس زعيتر الحالة الوحيدة التي شهدت فيها الدولة اللبنانية صراعات مع مطلوبين مسلّحين وذوي امتدادات محلية. فقد أثبتت تجربة الشيخ أحمد الأسير في صيدا عام ٢٠١٣ كيف يمكن لغياب السيطرة الكاملة ووجود تحالفات محلية أن يطيل أمد الملفّات الأمنية ويعقّد المسارات القضائية.
تجربة الأسير تؤكّد أن أي تسوية أو ضبط لمطلوب بارز يحتاج إلى توازن دقيق بين الحزم الأمني والمناخ السياسي المحلي، وما يمكن أن يفعله الضغط الشعبي أو العشائري لاحقًا على التشريعات، بما فيها العفو العام.
هل يشكّل توقيف زعيتر عنصر توازن جديد داخل السجون؟
الاكتظاظ في السجون اللبنانية كارثي: أكثر من ٨٠٠٠ سجين في مبانٍ مُتهالكة. وفي حال إقرار اتفاقية قضائية مع سوريا تُخفّف عدد السجناء، قد يجد المشرّعون أنفسهم أمام فرصة وربما ذريعة لإعادة فتح ملفّ العفو العام.
من هنا، يرى بعض القانونيين أن "تنظيف ملفّات" المطلوبين البارزين، عبر استسلام أو توقيف، قد يخلق بيئة سياسية وقانونية مؤاتية لدفع تسويات أوسع.
ضغط جديد نحو العفو العام
وجود نوح زعيتر في السجن ليس تفصيلاً. للرجل حضور عشائري واسع وقدرة ضغط لا يُمكن تجاهلها.
وقد بدأت بعض القوى، خلال الأيام الأخيرة، رفع سقف خطابها الداعم لفتح ملفّ العفو العام بعد سنوات من الجمود. لكن الانقسام حول جرائم المُخدّرات والاعتداء على الجيش ما زال يحول دون أي إتّفاق فعلي.
جلسة الحكومة: مؤشّرات "غير بريئة"
في جلستها الأخيرة، طرحت الحكومة بندين لافتين: أولهما تعديل بعض مواد قانون العقوبات بما يسمح بإطلاق محكومين بالمؤبّد (اقتراح قديم ظهر فجأة، وثانيهما إلغاء عقوبة الإعدام كليًا وإحالته إلى مجلس النواب. وعليه، فان إحياء هذه الملفّات بهذا التوقيت، بعد توقيف زعيتر، لا يبدو عابراً.
بين ضرورات الإصلاح: ومخاوف الإستغلال
لبنان يحتاج فعلاً إلى إصلاح عميق في نظام السجون والعقوبات. لكن الخشية تكمن في أن تتحوّل هذه الحاجة إلى مدخل لتسويات ظرفية يستفيد منها أصحاب النفوذ، فيما تبقى الفئات المُهمّشة خلف القضبان بلا سند.
هل نحن أمام لحظة مفصلية؟
توقيف نوح زعيتر ليس مجرد خبر أمني. إنه منعطف قد يؤدّي إلى إعادة رسم العلاقة بين الدولة والمطلوبين، وبين التشريعات والسجون، وبين الأمن والسياسة.
وإذا استمرت المؤشّرات في الاتجاه نفسه، فقد يكون لبنان أمام صفقة كبرى تتقاطع فيها الحسابات القضائية والعشائرية والسياسية وربّما الإقليمية أيضاً.
السؤال الحاسم
هل يُشكّل توقيف نوح زعيتر بداية عودة الدولة إلى موقعها الطبيعي، أم أنّه تمهيد لطبخة تشريعية - أمنية تُعيد تدوير منظومة الإفلات من العقاب؟