عاجل:

بعدما تم "تسريب الرواية" من خارج الحدود: من يملك الحقيقة في جريمة تفجير مرفأ بيروت؟ (خاص)

  • ١٢٣

خاصّ ـ "إيست نيوز"

جوي ب. حداد

لم يعد اللبنانيون ينتظرون نتائج تحقيقات بلادهم لكشف خفايا انفجار مرفأ بيروت. فالقضية التي وُضعت على اعلى الرفوف منذ نحو خمس سنوات، عادت فجأة إلى الواجهة عبر تصريحات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الذي قدّم سردية متكاملة حول "شبكة اغتيالات" مُرتبطة بـ "الوحدة 121" في "حزب الله". لا يهم إن كانت هذه السردية جزءاً من الدعاية الإسرائيلية أو محاولة مدروسة لاختراق المزاج الداخلي، ما يهم هو السؤال الأخطر: كيف أصبحت الحقيقة معلّقة إلى درجة أن يتداولها الخارج بدلاً من أن يكشفها القضاء اللبناني؟

تسريبات تُحرج القضاء والدولة معاً

ما طرحه أدرعي وضع السلطة القضائية أمام مأزق غير مسبوق. فالقضاء، الذي عجز طوال سنوات عن استكمال التحقيق العدلي بفعل الضغوط السياسية والدعاوى، يجد نفسه اليوم أمام مادّة اتهامية علنية تتضمن أسماء وتواريخ ومُلابسات قتل أربعة أشخاص ارتبطت أسماؤهم بملف نيترات الأمونيوم أو بمشاهدات حساسة بعد الانفجار.

تعامل القضاء مع هذه الإفصاحات ليس مجرد مسألة تقنية. فاعتبارها "إخباراً" يعني الاعتراف الضمني بفشل المنظومة القضائية في جمع المعلومات. أما تجاهلها، فهو تكريس لانعدام الثقة بين الرأي العام والقضاء. وفي الحالتين، تبقى الدولة مكشوفة أمام سؤال واحد: لماذا بقيت جريمة بهذا الحجم بلا نتيجة؟

من جوزيف سكاف إلى لقمان سليم: مسار موت واحد

في صلب ما طرحه أدرعي أسماء أربعة قُتلوا في ظروف ملتبسة: جوزيف سكاف، أول من حذّر من كارثة النيترات قبل سنوات من الإنفجار. منير أبو رجيلي، الضابط السابق في الجمارك، الذي وُجد مقتولاً بلا رواية رسمية واضحة. المصور جو بجاني، الذي وثّق الساعات الأولى بعد الكارثة وقتل أمام منزله. والصحافي لُقمان سليم، الذي تحدث صراحة عن شبكة نقل نيترات بين دول أوروبية ولبنان.

قد تكون الرواية الإسرائيلية محاولة لإعادة تدوير سرديات مُتداولة سابقاً، لكنها في الوقت نفسه تعكس واقعاً ثابتاً: القضاء لم يتمكن من تفكيك أي من هذه الجرائم، لا بالتحقيقات ولا بالاستجوابات. وهذا العجز ليس عجزاً مهنياً فقط، بل عجز سياسي ـ أمني ـ قضائي، تتداخل فيه توازنات داخلية وتدخلات مباشرة وتعطيل ممنهج.

حزب الله بين الاتهام والنفوذ

تحوم الاتهامات حول "حزب الله" منذ اللحظة الأولى لتعثر التحقيق، سواء في الضغط على القضاة أو في منع توقيف شخصيات سياسية وأمنية قريبة منه. فالمسار القضائي تعطل مرّتين: مرة بإزاحة القاضي فادي صوّان، ومرة بمحاصرة القاضي طارق البيطار، الذي تلقّى تهديداً مباشراً من مسؤول الأمن في الحزب. لم تكن هذه الضغوط أسراراً، بل صارت جزءاً من السردية الرسمية لمؤسسات إعلامية دولية ووثائق تحقيقيّة.

اللافت اليوم هو أن ما قاله أدرعي ـ بصرف النظر عن صدقيته ـ أعاد فتح ملف النفوذ الأمني داخل الدولة اللبنانية. فالحديث عن "وحدة 121" ليس جديداً في تقارير مراكز أبحاث دولية، ولا في الربط بين الاغتيالات السياسية منذ 2005 ودوائر أمنية مرتبطة بالحزب. الجديد هو أن هذه المعطيات خرجت إلى العلن في لحظة سياسية حساسة، بعد زيارة البابا وما حملته من محاولة تهدئة، ما جعل وقعها أشدّ على الداخل اللبناني.

حرب نفسية أم ثغرة حقيقية؟

يرى محلّلون أن ما صدر من الجانب الإسرائيلي يدخل في إطار "الحرب النفسية" التي تحاول إسرائيل إعادة تفعيلها في الداخل اللبناني. لكن الحرب النفسية ـ مهما كانت دوافعها ـ لا تُثمر إلا إذا وجدت أرضاً خصبة. والتربة اللبنانية اليوم مثالية: تحقيق مُعطّل، قضاء عاجز، وأهالي ضحايا يشعرون بأن العدالة تُدفن معهم.

وفي هذا السياق، يأتي كلام أدرعي ليعيد تدوير جروح لم تندمل، ويحرّك ملفاً تتجنّب السلطة فتحه، لأنه يمسّ مباشرة طبيعة النفوذ داخل الدولة.

العدالة المفقودة: والفرصة الأخيرة

اللافت في كل هذا الضجيج أن الدولة اللبنانية لم تعلّق بوضوح على السردية المطروحة. لا نفي رسمي، ولا تأكيد قانونياً، ولا حتى فتح تحقيق أولي. هذا الصمت ليس حياداً، بل مؤشراً إلى انهيار مفهوم الدولة كمرجعية للحقيقة.

اللبنانيون لا ينتظرون من إسرائيل أن تكشف لهم الحقيقة. ينتظرون من دولتهم أن تقوم بواجبها. لكنّ دولة عاجزة، وقضاء مكبّل، وسلطة سياسية متشابكة مع الملفّات الأمنية، جعلت الحقيقة تسكن في الخارج بدلاً من الداخل.

على حافة الحقيقة

القضية ليست في ما قاله أدرعي، بل في ما لم تقله الدولة اللبنانية منذ خمس سنوات. فحين يصبح الخارج هو من يحرّك الذاكرة، وحين تُفتح الجروح ببيانات من خلف الحدود، فهذا يعني أن العدالة في لبنان لم تُغتَل فقط بل دُفنت تحت الركام.

ويبقى السؤال الأثقل الذي لا يجرؤ أحد على مواجهته: إذا كانت الحقيقة اليوم تُصاغ خارج الحدود، فهل ما زال في هذا البلد من يملك الجرأة ليقول أين تبدأ المسؤولية… وأين تنتهي؟

المنشورات ذات الصلة