عاجل:

زيارةٌ اهتزت لها السياسة… البابا لاوون الـ 14 في لبنان: رسالة سلام فوق أنقاض دولة متصدّعة (خاص)

  • ٦٤

خاص ـ "إيست نيوز "

عصام شلهوب

زيارةٌ تهبط في لحظة لبنانية متشقّقة، حيث تتقاطع الأزمات السياسية والاقتصادية والطائفية عند نقطة انفجار مؤجّلة منذ أعوام، فيأتي البابا ليون الرابع عشر حاملاً خطابًا يتجاوز حدود الروح إلى مساحة السياسة، ويضع البلاد أمام اختبار جديد: هل تستطيع هذه الأرض أن تُبقي دورها كـ«رسالة» وسط صراع القوى الإقليمية واهتراء مؤسساتها؟

لم يكن المشهد اللبناني قبل وصول الحبر الأعظم مشهدًا عابرًا: دولة معطّلة، مؤسسات دستورية معلّقة على صراعات داخلية، اقتصاد ينهار، طوائف تعيش توتّراً وجودياً، ومجتمع يفرغ من شبابه. هذه الزيارة، في لحظة كهذه، لم تُقرأ يوماً كحدث ديني فقط، بل كرسالة سياسية بكل ما تحمله من دلالات.

ومن القصر الجمهوري، حيث وقف البابا أمام رؤساء الدولة، أخذت كلماته اتجاهاً أبعد من المراسم. تحدّث عن الخوف والانقسام والهجرة، وعن الوجع الذي يصيب اللبنانيين في عمق يومياتهم. دعا إلى لغة الرجاء، وأنّ السلام لا يُصنع بمصالح ضيقة أو حسابات فئوية، بل بإرادة وطنية مشتركة. كانت عبارته «لبنان قادر أن ينهض إذا أراد أبناؤه ذلك» بمثابة إدانة ناعمة لمنظومة سياسية تهرب من المسؤولية منذ سنوات.

وفي لقائه مع رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية، توسّعت رسالته. لم يكن لقاءً دينياً بحتاً، بل إعادة تذكير بأن التعددية ليست واجهة، وأن الطائفية ليست قدراً، وأن تحويل الدين إلى أداة سلطة هو الوجه الآخر للانهيار. دعا إلى تجاوز الحساسيات الموروثة ونبذ منطق الهيمنة، في لحظة كانت فيها القوى السياسية تعيد ترتيب مواقعها بانتظار تسوية إقليمية لم تكتمل بعد.

لكن الذروة الروحية ـ السياسية كانت في مرفأ بيروت، حيث تقف البلاد منذ 2020 عاجزة عن قول الحقيقة. هناك شدد البابا على أنّ الصلاة لا تعوّض العدالة، وأن الغفران لا يُلغي الحقيقة، ملقياً الضوء على جرح وطني تحوّل إلى رمز لكيفية انهيار الدولة. شكلت كلماته دفعاً جديداً لأهالي الضحايا الذين شعروا بأن صوت العدالة عاد ليعلو فوق صمت السياسة.

وعلى متن الطائرة في طريق العودة، بدا البابا أكثر وضوحاً وصراحة. تحدّث عن النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي مؤكداً أن حلّ الدولتين هو السبيل الوحيد، في موقف يُحرج أطرافاً إقليمية كبرى. كما حذّر من انزلاق المنطقة إلى صراعات طويلة إذا بقي منطق الانتقام يحكم العلاقات بين القوى. أمّا عن لبنان، فاختصر رؤيته بعبارة ذات دلالة: «سأستمر في الصلاة من أجل لبنان… لكن المسؤولية تبقى في أيدي أبنائه». هذه الجملة وحدها كافية لتفسير نظرة الفاتيكان إلى الأزمة: الدعم الدولي ممكن، لكن الإنقاذ يبدأ من الداخل.

بعد مغادرته بيروت، بقيت تداعيات الزيارة تتفاعل. أعادت زيارته تسليط الضوء الدولي على بلد يوشك أن يسقط من سلّم الاهتمامات. وأعادت شيئاً من الثقة لجمهور واسع يشعر بالعزلة والقلق. أما سياسياً، فقد قسمت رسائله الطبقة الحاكمة بين من قرأ فيها فرصة للعودة إلى مشروع الدولة، ومن شعر بأنها تهديد لنفوذه القائم على تعطيلها.

إن زيارة البابا ليون الرابع عشر لم تكن حدثاً احتفالياً، بل كانت تشخيصاً دقيقاً لمأساة سياسية. لقد قال للبنانيين ما تخشاه طبقتهم السياسية: أنّ المستقبل لا يُبنى بالخوف ولا بالاصطفاف ولا بإجهاض العدالة، بل بالشجاعة والإصلاح والتلاقي. ترك لبنان خلفه، لكن كلماته بقيت معلّقة فوق سمائه كسؤال حاسم: هل تتحول رسالته إلى مسار… أم تبقى صدى يضيع في ضجيج السياسة؟

المنشورات ذات الصلة