آراء حرة – "ايست نيوز"
الدكتور طانيوس شهوان
كانت دعوة البطريرك المسكوني برتلماوس، بطريرك القسطنطينية المسكوني للبابا لاون للمشاركة في احتفالية ال 1700 عام على مجمع نيقيا كافية لفتح « شهية الدبلوماسية » الفاتيكانية على مقاربة التحديات الشرق اوسطية ودور المسيحيين فيها وعلى هندسة هذه الزيارة الى تركيا ولبنان ولبنان وفقاً لتلك التحديات الداهمة. فرمزية الزيارات البابوية الراعوية والسياسية كبيرة وعالية، منذ أن أصبحت الزيارات الراعوية الى بلدان أو مناطق محددة أداة رسولية ذات مؤشرات سياسية . فلا يمكن الفصل بين زيارة البابا الى تركيا وزيارته الى لبنان ؛ فهما متلازمتان بكل ما للتلازم من معنى. فتاريخ الزيارتين متصل من دون انقطاع وكأن البابا ينتقل من مدينة الى أخرى في « مجال جغرافي واحد» . فهو سيزور ثماني مدن في المجال الانطاكي من تركيا الى لبنان.
تقوم الدوائر في الكوريا الرومانية بإعداد زيارات البابا (الزيارات الرسولية أو الراعوية) عبر مسار طويل ودقيق، يرتكز على التنسيق الوثيق بين الكرسي الرسولي، وأمانة سرّ الدولة، والدوائر المختصّة، ومجالس الأساقفة في البلدان المعنيّة، والسلطات المدنيّة . وتُحضّر الزيارات البابوية دقيقة بدقيقة وبدقة متناهية وتحسب فيها ظروف الطقس والرهانات الراعوية والسياسية الكبرى على السواء. فعادة ما تسبق التحضيرات التنظيمية واللوجستية للزيارات البابوية تحضيرات فكرية وروحية وفق مسار طويل ودقيق تقارب فيها أدق التفاصيل.
محاولة لاستدراك التصعيد العسكري في جنوب لبنان
ولكن خلافاً لعادتها في الاعداد للزيارات الرسولية البابوية الى بلد معين، لم تأخذ الدوائر المختصة في الكرسي الرسولي على جري عادتها ظروف المناخ في التحضير لزيارة لبنان. فنادراً ما يحدد تاريخ الزيارات البابوية في فصل الشتاء أو خلال الفصول المعروفة بشتائها الكثيف. فنُظِّم مثلاً اليوم العالمي العاشر للشباب في الفيليبين في العام 1995 في منتصف شهر كانون الثاني، حيث يكون الصيف الاستوائي. وهي الفترة الأفضل على مدار السنة في الفليبين لحشد أكبر عدد ممكن من الناس. والامثلة على ذلك كثيرة ومتعددة. والسؤال الأبرز ما هي الاسباب التي جعلت الدوائر الفاتيكانية تتخطى الظروف المناخية وتستعجل هذه الزيارة وتضمها الى الزيارة الى تركيا خلال الفصل الاكثر عرضة للشتاء في لبنان؟ غالب الظن أن ما أرادته الدوائر الفاتيكانية من هذا الاستعجال، بعد أن استأنست برأي الدوائر الفرنسية والاميريكية، هو محاولة استدراك الوضع المأزوم الذي يواجه لبنان، والذي قد يعرضه سريعاً الى حرب لا تعرف نتائجها ؛ فالزيارة تأتي في سياق المحاولات الدولية لتحاشي التصعيد الاسرائيلي على لبنان، ولاستدراك الكارثة الكبرى، ولإعطاء المعنيين فرصة لمراجعة دقيقة والذهاب في اتجاه خيارات تجنّب لبنان واللبنانيين ما يحكى أنه آتٍ من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني قبل نهاية هذا العام. في الواقع، وعلى الرغم من استمرار اسرائيل في مهاجمة مواقع حزب الله واستهداف قيادييه، فقد خفّف الإعلان عن الزيارة البابوية من الاندفاعة الاسرائيلية على مدى أشهر، وقد يكون قد أجّل الضربة القاسمة التي يبشّر بها الاعلام الإسرائيلي الى ما بعدها. فهل تكون فترة السماح هذه كافية لمراجعة حزب الله ومن ورائه ايران لحساباتهم والدخول في التسوية المقترحة وتسليم السلاح الى الدولة اللبنانية والالتحاق بها؟
عودة الى جذور المسيحية الاولى
وتأتي زيارة البابا لاون الرابع عشر الى تركيا ولبنان لتطبع حبرية هذا البابا بوشم العودة الى جذور القرون المسيحية الاولى ومنابعها. وإذا كانت الإطلالة على القسطنطينية مسكونية بامتياز على اعتبار أن البطريركية المسكونية تمثل المرجعية الاولى في العالم الاورثوذكسي، والتي تمثل أكثر من 330 م لاون مؤمن، فالاطلالة على أنطاكيا،أولى بطريركيات العالم المسيحي والكنيسة الاولى، هي راعوية ورسولية بامتياز. إنها زيارة الى مهد المسيحية المشرقية، والتي اتخذت من آسيا الصغرى، تركيا اليوم، مجالاً أساسياً لنشأتها، لنمائها وازدهارها في الالفية الاولى. فهذا البابا يأتي حاجّاً، من العالم الجديد أي الاميريكيتين ، نشأة ورسالة، الى العالم القديم، عالم القسطنطينية وأنطاكيا على السواء ، الى الارض التي احتضنت المجامع السبعة التي عقدت بين 325 و 787 وكانت تالياً أرض الحيوية الفكرية واللاهوتية للمسيحية الناشئة. وللمفارقة نشأت القسطنطينية وبطريركيتها بفعل سياسي قام به الإمبراطور قسطنطين بعد اهتدائه الى المسيحية، فيما نشأت أنطاكيا بفعل أناس «عاديين» أحدهم بطرس، وهو صياد سمك، وثانيهما بولس، وهو روماني مرتد عن الوثنية ومُلاحق من السلطات الرومانية. فالقسطنطينية هي « مدينة قسطنطين» فيما أنطاكيا هي « مدينة الله ». وهذه مفارقة لايمكن تناولها في هذه المقالة ولنا عودة اليها في مجال آخر.
. فعلى وقع التراجع الكارثي في أعداد المسيحيين في العراق وسوريا والاراضي المقدسة،يزور البابا لاون الرابع عشر هذا المجال الجغرافي، الذي كان ذات غالبية مسيحية طوال الألفية الاولى، وقد فقد معظم أبنائه، وله مكانته في العقل الجمعي الكنسي، وله رمزيته الخاصة كونه مجال « ايجابي مشترك » له مكانته الخاصة في الذاكرة المشتركة بين المسيحيين، أورثوذكس وكاثوليك.
مجمع نيقيا الأول
كان من المقرر أن يقوم بهذه الزيارة البابا فرنسيس للمشاركة في الذكرى الـ 1700 لإنعقاد مجمع نيقيا الاول، غير أن المنية عاجلته. فكان أن ترتب على البابا لاون الرابع عشر المشاركة في هذه الذكرى وأن يلبي دعوة بطريرك القسطينية المسكوني، برتلماوس، للمشاركة في هذه الذكرى الحدث. وتتزامن هذه الزيارة الاولى الى تركيا مع إصدار وثيقتين هامتين، الاولى صادرة عن اللجنة اللاهوتية الدولية لمناسبة هذه الذكرى تحت عنوان: «الذكرى الـسبعمائة وألف للمجمع المسكونيّ النيقاويّ الأوّل (325 – 2025) »؛ والثانية، الرسالة البابويّة « في وَحدة الإيمان (In Unitate fidei للحَبر الأعظم البابا لاوُن الرّابع عشر. ولا يجب أن يغيب عن بالنا في هذا السياق أن البابا لاون الرابع عشر، والذي لم يمض على انتخابه أكثر من 6 أشهر ونيّف، يُطل على « كنيسة المشرق » من الشرفة التركية، التي يعتبرها مهد المسيحية الاولى ودلالة على محورية الشرق في رؤيته البابوية ورؤية الكنيسة الجامعة، في الواقع بدأ البابا لاون التوجه الى الشرقيين في 14 أيار 2025 أبّان لقائه مع بعض منهم في سياق يوبيل الكنائس الشرقية في روما، وبعد أيام على انتخابه، بطريقة ملفتة تنبئ «بتوجّه» جديد فيما يتصل بموقعهم في الكنيسة وبدورهم في المجال الكاثوليكي العام، وفي مقاربة علاقة الكنيسة الجامعة معهم. فقد أعلن في سياق هذا اللقاء : «أنتم ثمينون. الكنيسة بحاجة إليكم (...). كم هي ثمينة مساهمة الشرق المسيحي اليوم! كم نحن بحاجة إلى استعادة حسّ السرّ الحيّ في طقوسكم التي تشرك الإنسان بكليّته، وتُنشِد جمال الخلاص، وتثير الدهشة أمام عظمة الله التي تحتضن صِغَر الإنسان! » . وقد ودعا البابا مجمع الكنائس الشرقية إلى البحث عن حلول لمساندة الكاثوليك الشرقيين في بلدان الانتشار، مؤكداً: «من الأساسي الحفاظ على هذه التقاليد».
لاون الرابع عشر محاولة استشراف لبرنامجه الراعوي
ولا يبدو هذا الامر غريباً على الكاردينال بروفست الذي اختار يوم اعتلانه السدة البابوية اسم سلفه حامل نفس الاسم، البابا لاون الثالث عشر، الذي يعتبر البابا الرائد في مجال العمل على تعزيز دور الشرقيين ومكانتهم في الكنيسة الجامعة فأصدر ثلاثة رسائل في هذا الشأن: الأولى لتشجيع الكاثوليك على دعم جمعية Oeuvre d’Orient، والثانية في وحدة الايمان، والثالثة في كرامة الشرقيين. إضافة الى هذا التوجه أحدث البابا لاون الثالث عشر تغييراً جذريا في مقاربة الكنيسة للمستجد الاجتماعي الاقتصادي والثقافي في الفضاء الاوروبي، الذي كان قد دخل فترة الحداثة بعد عصر الأنوار والثورة الصناعية، وقد أصدر 86 رسالة بابوية، ثلاثة منها رسائل ذات طابع سياسي، الاولى في أصل السلطة المدنية، والثانية في علاقة الكنيسة مع الدول ، والثالثة في الحرية الانسانية؛ وهو كذلك مؤسس تعليم الكنيسة الاجتماعي الحديث، وأصدر أولى الرسائل في هذا المجال، الشوؤن الحديثة Rerum Novarum وقد سعى من خلال هذه الرسائل إلى تحديد موقف الكنيسة الكاثوليكية في علاقتها بالعالم الحديث آنذاك.
فلا بد لمن يريد فهم رؤية البابا لاوون الرابع عشر لدوره والمهام التي يودّ الإضطلاع بها من أن يفهم ما أراده من اختيار اسم البابا لاون الثالث عشر كإسمه الحبري. فهو حكماً سيسلك في هدي سلفه فيما يتصل بتحديد موقف الكنيسة من المتغيرات الكبرى التي تجتاح العالم، وسيكون له موقفه السياسي من القضايا الداهمة على المستوى الدولي، وسيعمل على تجديد تعليم الكنيسة الاجتماعي، وهو مسكوني باميتاز، وللكنائس الشرقية مكانة خاصة في وجدانه الكنسي وللشرقيين الكاثوليك الموقع الممتاز في رؤيته الكنسية والجيوسياسية.
إطلالة مسكونية على القسطنطينية من تركيا
يكتسب البعد المسكوني للزيارة البابوية أهمية كبرى في سياق المراكمة المستدامة على طريق الوحدة بين الكنيسة الغربية والكنائس الشرقية. ولعلّ ما تمّ تحقيقه الى يومنا هذا على هذا الصعيد يسلك طريقاً « آمناً » ووفق ما كان يردده الأب جان كوربون، وهو أحد رواد الحركة المسكونية في المشرق :« ليس السؤال الحقيقي أن تصبحَ كنائسُنا كنيسةً واحدةً، بل أن تتقدم نحو الشّركة الكاملة بين بعضها البعض. لذلك من الضروري، أن تكفَّ الخصوصيّاتُ عن احتكارِ هويّة كلِّ كنيسةٍ ليتسنّى لهويّة كلّ منها أن تزدهر في شركتها مع الكلّ» . فالاعلان المشترك الذي وقّعه البابا لاون والبطريرك برتلماوس، والذي يأتي ثمرة جهود متواصلة منذ العام 1964 الى يومنا هذا، يأتي في روحية ما قاله الاب كوربون.في هذاالسياق.
دور فرحات وتابت في تفعيل العلاقة الدبلوماسية بين تركيا والفاتيكان
ولا بد لنا، وفي سياق الكلام عن زيارة البابا لاون الرابع عشر الى تركيا والرهانات المسكونية والجيوسياسية من التوقف عند ما أسهم به، اللبنانيان المثلث الرحمات المطران ادمون فرحات،السفير البابوي في تركيا بين العامين 2001 و 2004 ، والمثلث الرحمات المطران بولس فؤاد تابت، السفير البابوي في اليونان من العام 1996 حتى العام 2005. في الواقع عُين المطران ادمون فرحات سفيراً بابوياً في تركيا وتركمنستان في العام 2001 وقدم أوراق اعتماده الى رئيس الجمهورية التركية آنذاك، أحمد نجدت سيزير » في 6 شباط من العام نفسه. فيما كان السفير تابت قد سبقه الى اليونان وعين سفيراً للكرسي الرسولي فيها في 2 كانون الثاني 1996. لعب فرحات وتابت دوراً محورياً في تمتين العلاقات بين حاضرة الفاتيكان وتركيا واليونان من جهة، وبين الكنيسة الكاثوليكية والعالم الاورثوذوكسي من جهة أخرى. على المستوى التركي هندس فرحات الانفتاح بين تركيا والكرسي الرسولي إذ ظلّت العلاقة بين تركيا والكرسي الرسولي حساسة ومتوترة لعقود بسبب التاريخ، والعلمانية الأتاتوركية الصلبة، وعقبات البروتوكول. فنجح فرحات، وهو الشخصية الدبلوماسية المثقفة المرموقة، في بناء الثقة بين الدولة التركية والفاتيكان، ولا سيما عبر معالجة الملفات المعقدة من مثل: ملفات الأوقاف الكنسية، وضع الكاثوليك في تركيا، حقوق الكنائس المسيحية بالعموم،تنظيم المدارس والإكليريكيات، تسهيل المعاملة القانونية لرؤساء الكنائس. ولعل أبرز ما ساعد فرحات في تحقيق هذا التقدم النوعي، عمله هو والسفير تابت، على إدخال تركيا في الحوار الاوروبي . لقد ساهم المطرانان المارونيان في رسم صورة جديدة لتركيا أمام أوروبا كدولة تسعى إلى: احترام الحريات، الانفتاح الديني، والانخراط في الحوار الإسلامي–المسيحي. فدفاعهما عن حق تركيا بعضوية الاتحاد الاوروبي هو في نظرهما، أحد مداخل الحوار بين إحدى عواصم العالم الاسلامي والغرب والسبيل الى تعزيز علاقات الكرسي الرسولي مع تركيا وتفعيل دور المسيحيين وضمان حقوقهم فيها. وكان لتابت ولفرحات دوراً طليعياً في العلاقات المسكونية بين الكرسي الرسولي وبطريركية القسطنطينية المسكونية، وبطريركها برتلماوس، والبطريركية الاورثوذكسية اليونانية المتشددة، وبطريركها غبطة المتروبوليت كريستودلوس .
إطلالة راعوية، رسولية ورسالية على انطاكيا من لبنان
وإذا كان البعد المسكوني في الزيارة البابوية قد إقتصر على البطريركية القسطنطينية المسكونية والكرسي الرسولي، فلا يمكننا أن نغفل البعد المسكوني في المجال الانطاكي الذي قاده الأب يواكيم مبارك، في ستينات وسبعينيات القرن الماضي، والذي عمل على « تتبّع الأصالة الانطاكية في العمق الروحاني وتجلّي الوحدة المسكونية في إحياء التراث السرياني الانطاكي، لأن هذا العمق الروحاني، الذي هو في أساس كل شيء في الكنيسة، هو بالفعل ما يجمع الى الآن كل العائلات الأنطاكية على تنوعها بالرغم من الاختلافات» وهذا ما يترتب على عائلات أنطاكيا الروحية العمل عليه بعد زيارة البابا الى المشرق .
أما على المستوى الراعوي، الرسولي والرسالي على السواء، فتمثل زيارة لبنان الاطلالة الحقيقية على المجال الانطاكي إذ أن الكاثوليكية الانطاكية متمركزة بالأكثر في لبنان، وهي « الهاشلة بين انطاكيا والقدس » على ما يقوله المونسينيور ميشال حايك. فمن الزيارة الرمزية الى المجال الانطاكي في تركيا ، أنطاكيا « المدن الميتة »، والتي لم يبقَ فيها إلاّ « أحياء نصارى » لا يشكل قاطنوها إلاّ أقلية ديموغرافية لا تذكر، ينتقل البابا لاون الرابع عشر الى زيارة لبنان، "أنطاكيا الجديدة" ، أنطاكيا الناشطة والحيوية ، والتي يبقى فيها الحضور المسيحي فاعلاً بكل ما للكلمة من معنى .فلبنان هو « أنطاكيا الجديدة» حيث الحيوية الكنسية المتمثلة ببنى رعوية هامة موزّعة على 23 أبرشية كاثوليكية وأكثر من 1200 رعية موزّعة على مدى الجغرافيا اللبنانية وبنى تربوية (367 مدرسة كاثوليكية؛ وستة جامعات) وأخرى استشفائية (عشرة مستشفيات ) وعشرات المؤسسات الاجتماعية من مثل كاريتاس وغيرها. ويكتمل المشهد الانطاكي في لبنان بحضور كل مكوناته الاورثوذكسية والارمنية والسريانية والمكونان الكلداني والاشوري. لقد علمتنا التجربة في لبنان « أن هويّتنا المسيحيّة والكنسيّة تبقى ناقصة ما لم تزِدنا شركةً مع الآخر، ويلقي على عاتقنا أبناء أنطاكية مسؤوليّة العيش والشهادة لهذه الوحدة في غنى تنوّعنا» كما يقول الاب كوربون.
ومن لبنان على «كنيسة العرب»
الإطلالة البابوية من الشرفة اللبنانية هي كذلك إطلالة على بلاد العرب والمجال العربي وعلى « كنيسة العرب » كما يقول الاب كوربون. في كلامنا عن كنيسة العرب، لا نقصد الإشارة الى الكنيسة العربية بالمعنى الحصري، او الكنيسة الانطاكية أو الارثوذكسية أو الكاثوليكية او القبطية بالمعنى الضيق المتداول. المقصود هو الكنيسة الحية في هذه المنطقة، تلك التي تتألف من مجمل المسيحيين، والتي تشمل هويتها الكنائس الفردية ومنها تتألف الإطلالة البابوية من لبنان على العالم العربي المتغيّر ، هي ذات مدلولات كبرى: فهو يُسائلنا بذلك عن الدور الذي نريده لوطننا في هذا العالم العربي بعد أن فقدنا الكثير منه منذ عقود.
أسئلة وتحديات
ولكن الاهم في كل هذه الاطلالات هو البعد الاعمق لهذه الزيارة التاريخية، إذ يجب أن يضع المسيحيين اللبنانيين أمام الاسئلة الكبرى والتحديات التي يجب ينبغي أن يتصدوا لها وان يُفاتشوا فيها أنفسهم وأن يفاتشوا فيها كذلك قداسة البابا ومعه الكنائس الشرقية الكاثوليكية وتتعلق بهوية الكنائس الشرقية ودورها في الكنيسة الكاثوليكية الجامعة؛ أي دور للمسيحيين في المجال المشرقي وفي هذا العالم العربي وما هي الاسهامات التي تستطيع أن تقدمها هذه الكنائس للكنيسة الجامعة في هذا السياق؟ كيف يمارس المسيحيون واجب التبشير بالسلام في هذه المنطقة المتفجّرة وتعيش عاصفة سياسية غير مسبوقة؟ كيف يساهم المسيحيون في إعادة بناء عروبة حديثة حاضنة لكل مكوناتها؟ كيف تستطيع هذه الكنائس الكاثوليكية أن تعيش وتجسّد كاثوليكية واحدة ضمن التنوع؟ كيف تُعرّف الكنيسة البطريركية "ذات الحق الخاص" (sui juris) وما هو دورها ورسالتها في لبنان والعالم العربي؟ ما هو دور مجمع الكنائس الشرقية الكاثوليكية وما هي طبيعة عمله؟ وكيف يمكن لهذا المجمع أن يساعد الكنائس الشرقية على النمو وتطوير كاريسمها الخاص ضمن الشركة الكنسية؟ كيف يمكن تطبيق مبادئ السينودوسية في إطار العلاقة بين الكنائس الشرقية والكرسي الرسولي؟ ما هو موقع الكنائس الشرقية الكاثوليكية في الحوار المسكوني الجاري؟ هل هي مجرد حجر عثرة، أم أنّ بوسعها أن تقدّم نماذج للاتحاد أو إسهامات تساعد على التقدّم في العلاقات بين الكاثوليك والأرثوذكس في المجال الانطاكي ؟ ما هو إسهام الكنائس الشرقية الكاثوليكية في مجال العلاقات بين الأديان، وبخاصة في علاقتها مع الإسلام، نظراً إلى تاريخ العيش المشترك منذ القرن السابع؟ وما هي توقعات الكنيسة العالمية من حياة العيش المشترك بين مسيحيي الشرق والمسلمين واليهود وسائر الأقليات الدينية في الشرق الأوسط؟
السلام الآتي
في العام 2014 عرضت على قداسة البابا فرنسيس، في رسالة وجهتها اليه أبّان الجمعية العمومية للمجلس الحبري للعلمانيين، « الدعوة الى سينودس خاص بالسلام في الشرق الاوسط»، قناعة مني بأن الدور البديهي للمسيحيين المشرقيين هو العمل من أجل السلام بين شعوب هذه المنطقة وبلدانها وضمن العائلة الابراهيمية؛ فيكونون بذلك في قلب المعادلة الجيوسياسية في منطقة الشرق الاوسط لا على هامشها ويخرجون بذلك من ضاحية المنطقة السياسية ومن ريفها ويتمركزون في فلب المعادلة السياسية والانسانية فيها وعلى كل المستويات. وحين قابلته في العام 2016 ، خلال الجمعية العمومية للمجلس الحبري للعلمانيين أعدت تذكيره بالموضوع فما كان منه إلاّ أن قال لي بالايطالية: « È prematuro «، أي أن أمر غير ناضج وسابق لأوانه. فهل أصبح موضوع السلام اليوم ناضج وباتت الظروف موأتية له؟ وهل ستدعو الكنيسة الجامعة الى سينودس خاص من أجل السلام في الشرق الاوسط؟ لننتظر، ونترجّى ونرى.