عاجل:

82 عاماً على الاستقلال: ذكرى بلا احتفال ووجع وطني متجدّد ...وطنٌ معلّق بين سيادته وواقع الارتهان (خاص)

  • ٥٢

خاص -"إيست نيوز" 

يحلّ عيد الاستقلال هذا العام مُثقلاً بالرموز، مثخناً بالجراح، ومشغولاً بغياب الاحتفالات الرسمية التي لطالما شكّلت محطة رمزية في الوجدان الوطني. فإلغاء المراسم والعرض العسكري ليس تفصيلاً بروتوكولياً، بل مؤشّر إضافي إلى دولة فقدت الكثير من عناصر قوّتها وعافيتها، حتى بات العيد مُناسبة للتساؤل أكثر مما هو محطة للفرح.

ففي الثاني والعشرين من تشرين الثاني، الذي وُلدت فيه فكرة السيادة اللبنانية، يجد المواطن نفسه أمام سؤال أشدّ قسوة: كيف نحتفل باستقلالٍ لم ننجح بعد في استرداده كاملاً؟

من الاستقلال السياسي إلى الارتهان الواقعي

في الذكرى الثانية والثمانين، يبدو المشهد اللبناني أكثر ضبابية من أي وقتٍ مضى. فلبنان يعيش استقلالاً منقوصاً، يتأرجح بين نفوذ الخارج وانقسامات الداخل. وما يزيد الصورة تعقيداً هو الانقسام الحاد حول مفهوم السيادة: بين من يرى أن المقاومة جزء من منظومة الدفاع الوطني، وبين من يعتبر أن ارتباط أي قوّة داخلية بمحاور إقليمية أو دولية ينتزع جوهر الاستقلال.

ومع تفاقم الانهيار الاقتصادي وغياب الثقة بالمؤسّسات، باتت ذكرى الاستقلال، في الوعي الجماعي، أقلّ شبهاً بمناسبة وطنية، وأكثر شبهاً بسؤال وجودي:

هل ما زلنا دولة قادرة على اتخاذ قرارها الحرّ، أم أصبحنا ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات؟

القيادة الوطنية بين التحدّي والمسؤولية

في ظلّ غياب الاحتفالات الرسمية، تتّجه الأنظار هذا العام إلى دور القيادة السياسية والعسكرية في حماية ما تبقّى من ركائز الدولة.

فالرئيس جوزاف عون، بقسمه والتزامه حماية الدستور، يحاول الحفاظ على الحدّ الأدنى من انتظام المؤسّسات. ومن جهته، يواصل رئيس الحكومة نواف سلام مساعيه لإعادة بناء الثقة المفقودة وتثبيت الاستقرار الإداري والاقتصادي.

إنّ التعاون بين رئاسة الجمهورية والحكومة يشكّل هذا العام بديلاً رمزياً عن الاحتفال التقليدي، ورسالة مفادها أنّ الاستقلال الحقيقي لا يُبنى بالمظاهر، بل بالممارسة اليومية للسيادة، وتعزيز منطق الدولة، وترسيخ مؤسّساتها.

وتأتي الذكرى وسط تحديات أمنية وسياسية واقتصادية ضاغطة: فالجنوب يعيش توتّراً مُستمراً، فيما يزداد الضغط الدولي لإنجاز الإصلاحات وتحييد لبنان عن صراعات المحاور. وفي مقابل ذلك، يقف القرار الداخلي أمام امتحان صعب بين حماية السيادة والخضوع لواقع الانهيار الذي يطغى على يوميات اللبنانيين. وهكذا يصبح الحفاظ على الاستقلال مسؤولية عمل يومي، لا مناسبة موسمية ولا خطاباً احتفالياً.

جيلان… واستقلالان

جيل الآباء والأجداد خاض معركة الاستقلال الأول، محرّكاً بإيمان راسخ بقدرة لبنان على أن يكون دولة حرّة. أما الجيل الحالي، فيخوض معركة مختلفة تماماً:

استقلال من الفساد، من الطائفية، من الارتهان السياسي والمالي. إنه استقلالٌ من نوعٍ آخر، لا تُخاض معاركه بالسلاح، بل بالإصلاح والمُحاسبة وإحياء روح المواطنة التي تراجعت تحت وطأة الأزمات. وفي غياب الاحتفالات، يصبح إحياء الذكرى فعلاً مقاوماً بحدّ ذاته، مُقاومة ضدّ اليأس والانهيار.

بيروت: حين يصمت الاحتفال ويعلو سؤال الوطن

في بيروت، حيث وُلد "الميثاق الوطني"، تغيب المراسم الرسمية هذا العام، لتحضر بدلاً منها أصداء مدينة مثقلة بالوجع. فالعاصمة التي لطالما كانت منارة الشرق، تُكافح اليوم لاستعادة أنفاسها وسط الانهيار المالي والعزلة. ومع ذلك، تبقى بيروت رمزاً للصمود، مدينة تعرف كيف تنهض من الركام، وتعيد تعريف معنى الإستقلال رغم الظلام الذي يحيط بها.

الاستقلال مشروع لا ذكرى

الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بعدد الأعلام ولا بطول المواكب العسكرية، بل بقدرة الدولة على اتّخاذ قرارها الحرّ، وبثقة المواطن بأنّ المؤسّسات موجودة لخدمته لا لابتزازه. وإذا كان الاستقلال الأول تحقّق على أيدي الآباء المؤسّسين، فإنّ الاستقلال الثاني ينتظر إرادة اللبنانيين لاستعادته من قبضة الفساد والوصايات الحديثة.

فالاستقلال ليس حدثاً من الماضي، بل مشروعاً للمستقبل. وقد تكون الطريق طويلة، لكنّ شعباً حافظ على ذاكرة استقلاله الأول، قادر على أن ينتزع استقلاله الثاني مهما طال ليل الأزمات.

في خلاصة المشهد، قد تُلغى الاحتفالات ويغيب العرض العسكري، لكنّ الاستقلال الذي يسكن ذاكرة اللبنانيين لا يُلغى. فهو معركة يومية بين واقع الارتهان وطموح السيادة، بين شعارات تُرفع باسم الوطن ومُمارسات تُسقط الوطن باسم المصالح.

فهل يأتي يوم يحتفل فيه اللبنانيون باستقلالٍ مُكتمل لا يُعلّق بين ذاكرة الحُريّة وواقع الانهيار؟


المنشورات ذات الصلة