عاجل:

قطاع المولدات والصهاريج سلطة فوق القانون... خسائر الدولة مليار و500 مليون دولار سنويا (خاص)

  • ٥٣

خاص _ "إيست نيوز" 

تبدو خطوة الاجتماع الأخير بين وزيرَي الاقتصاد والطاقة مع ممثلي أصحاب المولدات، في وزارة الاقتصاد والتجارة، أبعد من مجرد نقاشٍ تقني حول التعرفة أو العدادات. فاللقاء، الذي جاء بعد إجراءات رقابية متزايدة في الأسابيع الماضية، يعكس اعترافا رسميا بأن قطاع المولدات لم يعد ظاهرة عشوائية بل بنية موازية تفرض التعامل معها كواقع اقتصادي واجتماعي قائم.

الاجتماع فتح الباب مجدداً أمام السؤال الجوهري: هل تنظم الدولة هذا القطاع لحماية المواطن، أم تكرس وجوده كبديل دائم عن مؤسساتها؟

الظاهر ان القطاع الموازي ابتلع الدولةَ في لبنان، حين تمدد أصحاب المولدات والصهاريجِ في فراغِ المؤسساتِ الرسمية، فاحتلوا موقعها وقدموا خدماتها، لكن بثمن أغلى وبشروط يفرضها السوق لا القانون. ومع كل عجز حكومي عن إصلاح الكهرباء والمياه، تتعمق الهوة بين دولة تتراجع وسوق سوداء تكبر وتتوسع، ليجد المواطن نفسه رهينة لاقتصاد غير شرعي أصبح أقرب إلى شريك فعلي في إدارة البلاد.

  من "البديل المؤقت" إلى "المؤسسة الموازية"

بدأت حكاية المولدات منذ التسعينات، مع العتمة الدائمة التي فرضها تآكل وسوء ادارة مؤسسة كهرباء لبنان. وبحسب تقرير البنك الدولي (2023)، بلغ الطلب السنوي نحو 24 ألف جيغاواط/ساعة، في حين لم يتجاوز الإنتاج المتصل بالشبكة 14 ألف جيغاواط/ساعة، ما خلق فجوة هائلة ملأها القطاع الخاص عبر المولدات.

أما تقرير "هيومن رايتس ووتش" فذكر أن المولدات الخاصة أصبحت تغطي معظم حاجة السكان، مشيرة إلى أن هذا القطاع "يعمل خارج الاقتصاد الرسمي"، وهو ما يحرم الدولة من موارد ضريبية ويضعف سلطتها التنظيمية. ومع كل تأخير في إصلاح البنية التحتية، يتمدد هذا القطاع كالأخطبوط، ويؤمن أكثر من 60% من حاجة اللبنانيين للطاقة. وصار منظومة (اقتصادية ــ أمنية) تربط أصحاب المولدات بالبلديات والأجهزة الحزبية.

ماء الحياة بثمن الفوضى

كما في الكهرباء، كذلك في المياه. فقد تحول قطاع صهاريج المياه إلى شريان بديل في ظل انقطاع الضخ الرسمي. وتقدمت الصهاريج لتصبح البديل العملي عن الدولة، تملىء الخزانات وتؤمن الشرب، ولكن بأسعار مضاعفة، وبلا رقابة على الجودة أو المصدر. وتظهر دراسة ميدانية في بيروت أن المصادر غير الرسمية تتحمل 88٪ من التكلفة على المستخدمين رغم أنها تغطي فقط نحو 22٪ من الاستهلاك الفعلي. أي أن المواطن يدفع أكثر مقابل خدمة أقل جودة، في نظام لا يخضع لأي رقابة حقيقية على التسعير أو الجودة.

الدولة تعترف… ولكن بصمت

وجاء الاعتراف الرسمي بسلطة هؤلاء من دون إعلانٍ صريح. وذلك من خلال وزارة الاقتصاد التي تصدر جدولا شهرياً بتسعيرة المولدات، وكأنها تنظم قطاعا رسميا، فيما البلديات تمنح "إذن تشغيل" للمولدات ضمن نطاقها.

في المقابل، تغضّ الدولة الطرف عن المخالفات، لأن هذه الشبكة باتت تشكل "ضرورة معيشية"، يصعب الاستغناء عنها في ظل غياب البديل.

خسائر مالية مباشرة

تُقدّر خسائر مؤسسة الكهرباء بنحو 800 مليون دولار سنويا بسبب الهدر وسوء الجباية، وفق البنك الدولي. كما أن الخسائر التقنية وغير التقنية تتراوح بين 300 إلى 400 مليون دولار سنوياً.

أما في قطاع المولدات، فالدولة لا تجبي أي ضرائب حقيقية من الإيرادات المتأتية من الاشتراكات التي تسعَّر بالدولار. ما يعني أن مئات ملايين الدولارات تتداول خارج أي رقابة مالية.

 المواطن والثمن

واللافت امام هذا الواقع ان الأثر على المواطن يتشعب من الفاتورة إلى الصحة. يدفع اللبناني اليوم فاتورتين على الأقل لكل خدمة، واحدة للدولة التي رفعت اسعارها بشكل عشوائي خارج عن كل مألوف، وأخرى للقطاع الموازي الذي يفرض الأسعار.

والنتيجة، تضاعفت كلفة المعيشة، وازداد الفقر، وتفشّت أمراض التنفّس والتلوّث، بعد أن تحوّلت بيروت إلى مدينة يغطيها دخان المولدات، كما أكّد تقرير"The Guardian"عام 2024 .

لماذا لا تُحل المشكلة؟

رغم عشرات الخطط، ما زالت الدولة عاجزة عن النهوض بالقطاعين. والأسباب متشابكة:

1. بنية تحتية متهالكة تتطلّب مليارات الدولارات.

2. فساد ومحاصصة حزبية في التلزيمات والتعيينات.

3. تضارب مصالح بين أصحاب النفوذ والمستفيدين من اقتصاد المولدات.

4. شروط البنك الدولي الصارمة للتمويل، التي تربط الدعم بإصلاحات لم تُنفّذ بعد.

الأسباب السياسية والهيكلية

لقد خلق الاقتصاد الموازي شبكة مصالح متداخلة. أصحاب المولدات والصهاريج أصبحوا جزءاً من منظومة محلية تحظى بحماية سياسية. وهكذا، فكل مشروع إصلاحي يصطدم بتعقيدات الزبائنية والمحسوبيات. السلطة التنفيذية الضعيفة، جعلا الملف رهينة التجاذب السياسي. ولبنان الغارق في الديون والعجز المالي فقد قدرته على تمويل مشاريع البنية التحتية. التمويل الدولي مشروط بإصلاحات صارمة لم تنفذ بعد، ما يبقي البلاد في دوامة الانتظار.

أيّ طريق إلى الحل؟

لا مخرج فعلي من هذه الحلقة إلا عبر:

- تفعيل عمل الهيئات المستقلة للكهرباء والمياه، وضمان تطبيق التعرفة الرسمية بشفافية.

- دمج المولدات والصهاريج ضمن إطار قانوني ومالي يخضع للرقابة والضرائب.

 - استثمار في البنية التحتية لتقليل الاعتماد على السوق البديلة.

- فصل المصالح السياسية عن خدمات الطاقة والمياه، لمنع استمرار ظاهرة "الميليشيات الاقتصادية".

- تحسين الجباية والتحصيل بما يتيح تمويلاً ذاتياً مستداماً للقطاعين.

وفي الخلاصة يظهر أن ما يجري في لبنان ليس مجرد أزمة كهرباء ومياه، بل أزمة بنيوية في مفهوم الدولة نفسها. فحين يفقد المواطن ثقته بالمؤسسات، ويصبح مورد طاقته ومائه مرتبطاً بتاجر محلي لا بوزارة، تتحول الخدمات من حق عام إلى سلعة.

وحين تصبح هذه السلعة حكراً على من يملك المال أو النفوذ، تفقد الدولة وظيفتها الاجتماعية، ويعاد رسم حدود السلطة بين من يملك المولد ومن يحتاج إليه.


المنشورات ذات الصلة