عاجل:

الانفجار الصامت في القطاع المصرفي: تدقيق حمود يفتح دفاتر الماضي (خاص)

  • ٩١

خاص - "إيست نيوز"

عصام شلهوب

هز مستشار وزير المال والرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، الطاولة المالية بجرأة غير مألوفة حين دعا إلى تدقيق شامل في حسابات المصارف لكشف الشوائب التي تراكمت في تعاملاتها مع مصرف لبنان.

لم تصدر كلماته من موقع سياسي بل من خبرة رقابية تعرف دهاليز النظام المصرفي عن قرب، فجاءت كمرافعةٍ جريئة في وجه صمتٍ طويل خيّم على القطاع. وما إن أنهى مداخلته حتى تدحرجت الارتدادات في أروقة المصارف، بين من اعتبرها إنذاراً إصلاحياً ضرورياً، ومن رأى فيها تهديداً مباشراً لهالة المصارف ومحاولة لإعادة رسم خريطة المسؤوليات في الانهيار المالي اللبناني.

لكنّ المفارقة أن حمود، الذي طالب اليوم بالتدقيق الشامل، يواجه حملة انتقادات حادّة تتهمه بـ”التأخّر في الكلام”، إذ يسأل خصومه: أين كانت هذه المواقف يوم كان يرأس لجنة الرقابة على المصارف؟ وهل كان يستطيع آنذاك أن يرفع الصوت في وجه نظام سياسي ومالي كان محصّناً بالتوافق والسرّية؟

الدفاع عن العدالة لا الهجوم على المصارف

منذ تعيينه مستشاراً لوزير المال، تبنّى حمود مقاربة تقوم على إعادة توزيع الخسائر بعدالة بين المصارف، مصرف لبنان، والمودعين، رافضاً أن يتحمّل المواطن وحده نتائج الانهيار المالي.

ففي مداخلته الأخيرة، شدّد على أن “أي خطة إصلاح أو اتفاق مع صندوق النقد يجب أن تقوم على العدالة والمساواة بين الأطراف كافة”، مؤكداً أن “تحميل المودعين وحدهم كلفة الانهيار هو اغتيال للثقة بالقطاع بأكمله”.

واستند حمود في طرحه إلى منطق محاسبي ومالي بحت قائلا: "ذا اتفقنا على أن لا شوائب في حسابات المصارف، فهذا يعني أن لا شوائب في حسابات المودعين أيضاً. وإذا اعترفنا بالعكس، فالعدالة تقتضي أن يتحمّل الجميع المسؤولية".

"الهجوم يهدّد ما تبقّى من ثقة"

إلا أن ردّ جمعية المصارف جاء دفاعياً، إذ رأت أن طرح حمود يوحي ضمنياً بأن المصارف استفادت من الهندسات المالية أو من تحويلات مشبوهة، في حين أن “القرار السياسي والرقابي” هو الذي وضع الإطار الذي عملت ضمنه.

مصادر مصرفية مطّلعة أكدت أن المصارف تعتبر أن تحميلها مسؤولية الانهيار وحدها “تصفية معنوية” غير منصفة، لأن مصرف لبنان والسلطة السياسية كانا شريكين في السياسات النقدية التي راكمت الخسائر منذ عام 2016.

كما شددت المصادر على أن المصارف “تخضع أصلاً لرقابة لجنة الرقابة على المصارف ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان، وبالتالي فإن أي حديث عن تدقيق جديد يجب أن يكون بإشراف جهة دولية مستقلة، وليس عبر قرارات أحادية من وزارة المال”.

جوهر الخلاف: التدقيق أم المحاسبة؟

ومن المؤكد ان الخلاف اليوم يتركز حول حدود التدقيق ومسؤولية الأطراف. فبينما يرى حمود أن التدقيق الشامل شرط لإعادة بناء الثقة، تخشى المصارف من تحوّله إلى محاكمة سياسية مالية تطال مجالس إدارتها ومديريها، وتعيد فتح ملفات التحويلات إلى الخارج والفوائد الاستثنائية التي جرت خلال الهندسات المالية عام 2016.

ويرى بعض المراقبين أن موقف حمود هو أقرب إلى “إنذار مبكر”، محذّراً من أن “أي عملية ترميم للقطاع المصرفي دون كشف الحقائق ستبقى بلا أساس متين”.

هل يمكن استعادة الثقة؟

وبحسب معظم التقارير المالية الدولية، فأن الجواب الواقعي، هو أن استعادة الثقة لن تتم قبل إعادة هيكلة شاملة وواضحة للمصارف تتضمن:

 1. إعادة رسملة تدريجية بالليرة والدولار الجديد.

 2. توحيد سعر الصرف رسمياً.

 3. تحديد حجم الفجوة المالية بدقة عبر تدقيق مستقل بإشراف صندوق النقد.

 4. إصدار قانون جديد لضمان الودائع.

كيف يمكن لمودع استرجاع وديعة بقيمة 100 ألف دولار اليوم؟

ووفق تقرير البنك الدولي الصادر في تشرين الأول 2025, فإن الثقة المصرفية في لبنان تراجعت إلى أدنى مستوى في الشرق الأوسط (9%)، بينما أشار صندوق النقد الدولي في مراجعته الأخيرة إلى أن “أي تعافٍ اقتصادي حقيقي مرهون بإصلاح القطاع المالي واستقلالية مصرف لبنان”.

لكن الإجراءات تختلف من مصرف إلى آخر، وهي محكومة بآلية “التسديد الانتقائي” المعمول بها منذ 2021.

حالياً، تتيح بعض المصارف:

 • سحب مبلغ شهري يتراوح بين 400 و600 دولار نقداً (Fresh)،

 • أو تحويل ما يعادل 15 إلى 25% من الوديعة إلى حساب خارجي (بحسب العلاقة المصرفية)،

 • أو قبول عرض تسوية داخلي بالليرة على سعر “Sayrafa” السابق، وهو ما يفقد المودع أكثر من 70% من القيمة الفعلية.

في المقابل، تعمل الحكومة بالتعاون مع صندوق النقد على إعداد خطة جديدة لضمان الودائع الصغيرة حتى 100 ألف دولار، إلا أن المشروع ما زال عالقاً في مجلس النواب بسبب الخلاف على تمويله من “أصول مصرف لبنان أو من أرباح المصارف”.

المخاطر السياسية والمالية إذا استمر غياب الإصلاح حتى 2026

اما إذا استمر الشلل الإصلاحي القائم حتى عام 2026، فإن لبنان سيتجه نحو تآكل كامل للقطاع المصرفي كنظام وظيفي، وفق تحذير البنك الدولي في تقريره الصادر في نيسان 2025 (World Bank Lebanon Economic Monitor, Spring 2025).

يحذّر التقرير من أن بقاء الوضع على حاله سيؤدي إلى:

 • تجميد النظام الائتماني الداخلي كلياً، ما يعني توقف التمويل للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

 • تراجع احتياطات النقد الأجنبي إلى ما دون 5 مليارات دولار خلال 2026.

 • توسع السوق النقدي غير الرسمي وازدهار التحويلات خارج النظام المصرفي الشرعي.

 • تزايد الفجوة الطبقية وانهيار القدرة الشرائية بنسبة قد تصل إلى 70%.

وحذر صندوق النقد الدولي، من أن تأخير إعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان سيجعل كلفة الإنقاذ تتضاعف ثلاث مرات، مشدداً على أن “أي تأجيل إضافي سيقضي على ما تبقّى من أمل بعودة الثقة الداخلية أو الخارجية”.

بكلمات أخرى، فإن غياب الإصلاح حتى عام 2026 يعني أن ودائع الناس ستتحول فعلياً إلى خسائر دائمة، وأن القطاع المصرفي سيبقى مجرد "واجهة مالية بلا ثقة ولا سيولة"، في بلد يعيش على حافة الإفلاس السياسي والمالي.

ويخطئ من يظن أن الأزمة المصرفية في لبنان مسألة أرقام أو حسابات فقط؛ فهي قبل كل شيء أزمة ثقة وأخلاق ومسؤولية وطنية.

قد يكون حمود قد تأخر في الكلام، لكن كلماته اليوم تُعيد فتح النقاش حول من يتحمّل وزر الانهيار ومن يملك الجرأة على المواجهة.

وإذا لم تُترجم هذه المواجهة إلى إصلاحات بنيوية حقيقية قبل نهاية 2026، فإن كل ما سيبقى من القطاع المصرفي هو أرشيفٌ ثقيل من الوعود… وودائع لم تعد إلا أرقاماً على الورق.

المنشورات ذات الصلة