خاصّ - "إيست نيوز"
جوي ب. حدّاد
بعد موقفيْ رئيس مجلس النواب نبيه برّي و"حزب الله" الرافضين لأيّ شكلٍ من أشكال التفاوض مع إسرائيل، بدا أن الباب الذي فُتح قبل أسابيع نحو ما سُمّي "آلية الميكانيسم" قد أُغلق بإحكام.
لبنان اليوم لا يقف على عتبة خيارٍ جديد، بل على أنقاض فرصةٍ سياسية وُلدت ميتة، فيما تستمر الغارات الإسرائيلية على الجنوب بلا توقف، ويتقاطع الميدان مع السياسة كما لو أن البلاد تدور في حلقةٍ مفرغة من "اللاحرب واللاسلم".
لكنّ الذاكرة اللبنانية تُعيد طرح السؤال نفسه: ألم يفاوض لبنان وإسرائيل، ولو بشكلٍ غير مباشر، في محطاتٍ سابقة؟
وإذا كان التفاوض بالأمس مشروعاً لاستعادة جثامين وأسرى، فهل بات اليوم رجسًا سياسيًا؟ وهل الجثامين أقدس من الأرض؟
التفاوض: سابقة لبنانية لا بدعة رئاسية
بعيداً عن السجال الراهن، تُظهر العودة إلى الوراء أن مبدأ التفاوض غير المباشر مع إسرائيل ليس وليد اللحظة، ولا من “اختراع” العهد الحالي.
فالاتفاق على وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني 2024 لم يكن ليبصر النور لولا موافقة القوى المشاركة في حكومة نجيب ميقاتي، وعلى رأسها ثنائي حركة أمل و"حزب الله".
التفاوض، متى أحسن توظيفه ضمن الأُطر الوطنية الواضحة، لا يُعدّ تنازلاً عن الثوابت، بقدر ما هو أداة سياسية لحماية السيادة وتثبيت الحقوق، شرط أن يُدار بعقلٍ استراتيجي وإجماع داخلي يُحصّنه من المُزايدات والانقسامات.
تلك الموافقة، التي أقرّها مجلس الوزراء في حينه، تضمّنت بنداً واضحاً حول حصرية السلاح بيد الدولة، واعترافاً مُتبادلًا بـ"أهمية قرار مجلس الأمن 1701 في تحقيق السلام والأمن الدائمين".
وهذا يعني أن المؤسّسة الرسمية اللبنانية، بكل مكوّناتها، وافقت ضمنياً على مَسار تفاوضي، ولو بحدود ما تسمح به السيادة والكرامة الوطنية.
"حزب الله": يفاوضٌ تحت الطاولة
أما فيما يخصّ موقف "حزب الله"، فالحقيقة أن الحزب خاض أكثر من تجربة تفاوض غير مباشر مع إسرائيل خلال العقود الماضية. ومنذ مطلع الألفية، تمّت خمس عمليات تبادل للأسرى والجثامين بوساطة دولية، شارك فيها الحزب كطرفٍ أساسي. والمفارقة أن تلك العمليات لم تُعتَبر تنازلاً، بل "انتصارًا للمقاومة" لأنها استعادت جثامين وأسرى لبنانيين.
من هنا يطرح السؤال نفسه: إذا كان التفاوض لاستعادة جثمان شهيد أو أسير مقبولًا وشرعيًا، فلماذا يصبح مرفوضاً حين يكون الهدف استعادة الأرض أو تثبيت الحدود؟
المنطق نفسه انسحب على إيران، الحليف الاستراتيجي للحزب، التي لم تتردد يومًا في خوض مفاوضات مُباشرة وغير مباشرة مع الغرب ومع الولايات المتحدة، كلما تعلّق الأمر بمصالحها العليا.
تفاهمات موعودة أم فرص ضائعة؟
المداولات التي جرت خلال الأشهر الماضية أظهرت أن لبنان الرسمي كان يحضّر أوراقه بهدوء تمهيدًا لجولة جديدة من المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، على غرار تجربة ترسيم الحدود البحرية التي تمّت عبر وساطة أميركية.
وبحسب المعلومات، فإن القاعدة التي كانت معتمدة تقوم على تشكيل وفد تقني – عسكري – قانوني يمثل الدولة اللبنانية دون أي بعد سياسي مباشر.
لكن التطورات الأخيرة – وخصوصاً موقف بري الرافض لربط "الميكانيسم" بمسار سياسي – بدّدت كل التوقعات بفتح مسارٍ جديد، لتعود الأمور إلى المربّع الأول: لا تفاوض قبل وقف العدوان، ولا بحث في الآليات قبل تثبيت الردع.
"الكتاب المفتوح": تحوّل في خطاب الحزب
شكّل "الكتاب المفتوح" الذي أصدره "حزب الله" أمس تحوّلًا نوعيًا في خطابه السياسي، إذ اعتبره أحد الوزراء السابقين "انقلاباً على اتّفاق 27 تشرين الثاني الماضي"، لما تضمّنه من نبرة حادّة ورفضٍ قاطع لأي مسار تفاوضي مع إسرائيل خارج مُعادلة "الميدان أولاً".
جاءَ البيان بمثابة إعلان تمسّك بخيار المقاومة المطلقة، ورفضٍ لأيّ تسوية سياسية قبل وقف العدوان و"تحقيق توازن الردع مجدداً".
ويشير مراقبون إلى أن الحزب بدا كمن يُغلق الباب مؤقّتاً أمام أي وساطة أميركية أو دولية، فيما تعتبر أوساط قريبة من الحكومة أن ما ورد في “الكتاب المفتوح” لا يُعبّر عن موقف الدولة اللبنانية، بل عن رؤية فصيلٍ سياسيٍّ له وزنه، لكنها لا تُلزم المؤسسات الرسمية.
من انتظار الموفدين إلى انتظار القرار
في الكواليس الدبلوماسية، تشير المعلومات إلى أن الموفد الأميركي توم براك أنهى دوره، فيما تتولى مورغان أورتاغوس مُتابعة تفاصيل "الميكانيسم"، على أن يُعاد تفعيل الملف بالكامل مع وصول السفير الأميركي الجديد في لبنان، ميشال عيسى، الذي سيتسلّم مهامه خلال الأيام المُقبلة.
ومع قدومه، سيكون على طاولة السفارة الأميركية ملفّ تفاوضي لبناني شبه جاهز، لكن من دون توافق سياسي على فتحه.
أما بيروت، فاختارت هذه المرة الانتظار بدل الاندفاع، في اختبارٍ جديد لقدرتها على الجمع بين الواقعية والسيادة.
براغماتية بوجهٍ لبناني
في المُحصّلة، يبدو أن لبنان يُعيد تعريف أدوات المواجهة. فكما أثبتت تجربة ترسيم الحدود البحرية أن الواقعية لا تُناقض الثوابت، قد تُثبت المرحلة المُقبلة أن التفاوض غير المباشر ليس تنازلًا، بل وسيلة لاستعادة ما فُقد بالحرب والسياسة معاً.
الأسئلة كثيرة، لكن الثابت أن لبنان يتّجه إلى مرحلة جديدة من التعاطي مع العدو بعقلٍ بارد ومصلحةٍ ساخنة.
فهل يُكتب للبنان أن يخوض معركته الأخيرة بالكلمة لا بالسلاح، فيحوّل التفاوض إلى ورقة قوّة تحفظ سيادته، أم أن لغة الحرب ستبقى الأقرب إلى قاموسه السياسي، حيث لكلّ مرحلة قدّيسيها وأقداسها؟