خاص - "ايست نيوز"
تُظهر الأرقام أحيانًا ما تعجز عنه البيانات الرسمية والخطب السياسية. وفي حالة لبنان، وتكشف إحصاءات الأشهر السبعة الأولى من عام 2025 حقيقة مريرة عن واقع التبادل التجاري مع الدول العربية: أرباح محدودة مع بعض الشركاء، مقابل خسائر فادحة مع آخرين، في مشهدٍ يُعبّر بوضوح عن غياب سياسة تجارية رشيدة، وتراكم عجزٍ مزمن تتحمّل مسؤوليته وزارة الاقتصاد أولًا، ثم وزارة الصناعة، وأخيرًا مجمل النهج الاقتصادي القائم على “التجارة الحرة الفوضوية” التي فتحت أبواب السوق بلا حسيب أو رقيب.
أرقام دقيقة… ونتائج مقلقة
أشارت إحصاءات "دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية "خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2025 (من 1 كانون الثاني حتى آخر تموز) إلى أن الميزان التجاري للبنان مع 22 دولة عربية حقق فائضًا ربحيًّا مع 10 دول أبرزها سوريا والعراق والكويت وقطر، في حين حقق عجزًا مع 12 دولة عربية أبرزها مصر والسعودية والإمارات والمغرب.
وبحسب سجلات الجمارك اللبنانية، احتلّت سوريا المرتبة الأولى بالاستيراد من لبنان، والعراق المرتبة الثانية، وقطر الثالثة.
وقد بلغ استيراد سوريا من لبنان خلال الفترة المذكورة (7 أشهر) 103.434 مليون دولار مقابل استيراد لبناني منها بلغ 70.44 مليون دولار، بفائض ربحي لصالح لبنان قدره 32.997 مليون دولار.
أما العراق فقد احتلّ المرتبة الثانية للاستيراد والأولى من حيث الفائض الربحي، إذ بلغت قيمة ما استورده من لبنان (7 أشهر) 96.468 مليون دولار مقابل تصدير عراقي إلى لبنان بلغ 6.202 مليون دولار فقط، أي بفائض ربحي لصالح لبنان قدره 90.266 مليون دولار.
في المقابل، كانت أبرز الدول العربية التي سجل معها لبنان خسارة وعجزًا في الميزان التجاري هي مصر حيث بلغ هذا العجز في الفترة المذكورة (7 أشهر) 759.413 مليون دولار، تليها السعودية بعجز بلغ 675.671 مليون دولار، ثم الإمارات العربية المتحدة بعجز قدره 407.109 مليون دولار.
عشر سنوات من الاختلال المستمر
النتائج الحديثة التي اصدرها "دليل الصادرات والمؤسسات الصناعية " ، لا تبدو استثناءً في المسار التجاري اللبناني، بل هي استمرار لواقع ممتد منذ عقد من الزمن. فالإحصاءات الممتدة بين 2016 ولغاية آذار 2025 تؤكد أن سوريا احتلّت المرتبة الأولى من حيث الاستيراد وبلغت قيمة ما استوردته من لبنان خلال هذه السنوات 1.584 مليار دولار، مقابل استيراد لبنان من سوريا بقيمة 1.073 مليار دولار، أي بفائض ربحي لصالح لبنان قدره 510.705 مليون دولار أميركي.
أما العراق، فاحتلّ المرتبة الثانية من حيث الاستيراد والأولى من حيث الفائض الربحي، إذ بلغت قيمة مستورداته من لبنان 1.375 مليون دولار مقابل تصدير إلى لبنان بلغ 52.729 مليون دولار، أي بفائض ربحي لصالح لبنان قدره 1.322 مليون دولار.
في المقابل، واصلت مصر تصدّر لائحة الدول التي تكبّد لبنان خسائر في ميزانه التجاري معها، حيث بلغ هذا العجز خلال السنوات العشر الممتدة 4.269 مليار دولار، تليها السعودية بعجز قدره 2.295 مليار دولار، ثم الكويت 1.337 مليار دولار، والإمارات بعجز بلغ 1.068 مليار دولار.
وزارة الاقتصاد… شريك في الخلل
تضع هذه الأرقام وزارة الاقتصاد أمام مسؤولية مباشرة. فبدل أن تبادر إلى إعادة تقييم الاتفاقات التجارية العربية التي تسمح بإغراق السوق اللبنانية بمنتجات مدعومة أو منخفضة الكلفة الإنتاجية، اكتفت بسياسة “السكوت المريح”.
فلبنان، وفقًا للمادة 15 من اتفاقية التجارة العربية البينية، يمتلك الحق الكامل في اتخاذ إجراءات حمائية غير مكلفة لدعم صناعته الوطنية وحمايتها من المنافسة غير المتكافئة. إلا أن هذا الحق بقي حبرًا على ورق. لم تصدر الوزارة أي قرار جدّي بتفعيل هذه المادة، ولم تُجرِ مراجعة لهيكل الرسوم الجمركية التي فقدت دورها الحمائي منذ الانهيار المالي عام 2019.
والنتيجة: استمرار العجز التجاري في أكثر من نصف الدول العربية، وتراجع الصناعات اللبنانية التي كانت يومًا تُعدّ من ركائز الاقتصاد الإنتاجي، كالدواء والمواد الغذائية والملابس والأثاث.
وزارة الصناعة… الغائب الأكبر
أما وزارة الصناعة، التي يُفترض أن تكون رأس الحربة في المعركة الاقتصادية، فبقيت أسيرة بيانات موسمية ومؤتمرات شكلية لا تحمل خططًا تنفيذية حقيقية.
الصناعة اللبنانية التي تُنافس اليوم في ظروف قاسية من كلفة الطاقة والتمويل والنقل، لم تتلقَّ أي دعم موجه أو خطة تحفيز إنتاجي. لا خفض للفوائد، لا حماية من الإغراق، ولا سياسة تصديرية فعالة.
فحين تتلقى مصانع الدول العربية المجاورة دعمًا مباشرًا من حكوماتها في أسعار الكهرباء والمواد الأولية، تُترك المصانع اللبنانية تواجه مصيرها في سوق مفتوحة تُغرقها البضائع الأجنبية المدعومة.
التجارة الحرة… استباحة منظمة للسوق اللبنانية
المشكلة لا تقف عند حدود الوزارتين، بل تمتد إلى السياسة الاقتصادية العامة للدولة اللبنانية، التي تبنّت منذ تسعينيات القرن الماضي مفهوم “الاقتصاد الحر” بمعناه الأكثر انكشافًا، أي فتح الحدود أمام كل السلع من دون ضوابط حقيقية، بحجة الانفتاح والتكامل العربي.
لكن هذا الانفتاح لم يكن تكاملاً بل استباحة للسوق اللبنانية. فبينما تضع معظم الدول العربية قيودًا على بعض الواردات لحماية صناعاتها، ترك لبنان أسواقه عرضة للمنتجات الأرخص ثمنًا والأقل جودة، ما أدى إلى تدمير قطاعات كاملة من الإنتاج المحلي، أبرزها النسيج، والجلود، والألبان، والصناعات الغذائية الخفيفة.
ولأن “من تسبب بالأزمة لا يمكن أن يحلها”، فإن استمرار هذه السياسة دون مراجعة يعني تكريس العجز كأمر واقع، وتثبيت التبعية الاقتصادية بدل الشراكة المتكافئة.
بين الأرقام والسيادة الاقتصادية
الإحصاءات الواردة لا تعني مجرد تفاوت في الأرقام، بل تعبّر عن فقدان السيادة الاقتصادية للبنان في قراراته التجارية. فحين يكون العجز مع مصر وحدها خلال سبعة أشهر 759.413 مليون دولار، يصبح السؤال مشروعًا: هل نحن أمام سياسة اقتصادية تخدم الإنتاج الوطني أم أمام إدارة للعجز وتصدير للأرباح إلى الخارج؟
الإصلاح يبدأ من الاعتراف بالفشل، ثم بتفعيل الأدوات القانونية المتاحة في الاتفاقات العربية لحماية الصناعة الوطنية، خصوصًا أن لبنان لا يطلب فرض رسوم جديدة، بل فقط تطبيق حقّه الطبيعي في اتخاذ إجراءات حمائية مؤقتة توازن الكفّة.
بين الفائض والخسارة… القرار المفقود
في المحصلة، الأرقام لا تكذب. الفائض مع سوريا والعراق لا يُخفي العجز الهائل مع مصر والسعودية والإمارات.
والحق القانوني في إعادة النظر باتفاقات التجارة العربية لا يزال مُهمَلًا، كما تُهمَل القطاعات المنتجة التي تصارع للبقاء.
المطلوب من وزارة الاقتصاد أن تستعيد دورها كحارسٍ للسيادة التجارية، ومن وزارة الصناعة أن تتحول من متلقٍّ للشكاوى إلى صانعٍ للسياسات، ومن الدولة اللبنانية أن تتوقف عن التعامل مع “الاقتصاد الحر” كذريعة لتدمير ما تبقى من الإنتاج.
فلبنان الذي يملك عقولًا تصنع وتبتكر، لا يستحق أن يكون مجرد سوقٍ لتصريف فائض الآخرين.
 
             
                 
                 
                 
                 
                 
                 
                