عاجل:

لبنان والبحر: معركة الغاز التي لم تنتهِ بعد.. لوري هايتيان تكشف عبر "إيست نيوز" تفاصيل المرسوم الوحيد لحماية حقوق لبنان (خاص)

  • ٩٥

خاص ليست نيوز

مالك دغمان

في عمق البحر المتوسّط، حيث تختلط الجغرافيا بالنفوذ، يخوض لبنان واحدة من أعقد معاركه الصامتة: معركة الحدود البحرية. فعلى بُعد عشرات الكيلومترات من شواطئه، تتقاطع مصالح دولٍ كبرى وشركات طاقة عالمية في سباقٍ محموم لاكتشاف الغاز، بينما لا يزال لبنان يحاول تثبيت حدوده البحرية مع دول الجوار — تحديدًا قبرص وفلسطين المحتلة — منذ أكثر من عقد ونصف.

منذ توقيع اتفاق ترسيم غير مكتمل عام 2007، تتردّد أرقام متضاربة حول المساحات التي خسرها لبنان من مياهه الاقتصادية: بين 2,600 و5,000 كيلومتر مربع. وفي قلب هذا الجدل، يبرز المرسوم رقم 6433 الذي أودعه لبنان لدى الأمم المتحدة عام 2011، كمرجع قانوني أساسي في معركة الدفاع عن حقوقه البحرية.

تضارب الأرقام... بين 2,600 و5,000 كيلومتر مربع

في حديثٍ خاص لموقع إيست نيوز، تكشف الخبيرة في شؤون الطاقة والحوكمة لوري هايتيان عن خلفيات الملف وأبعاده القانونية والجيوسياسية، مشيرة إلى أنّ تضارب الأرقام ليس تفصيلاً، بل “صراع تفسير” بين الدراسات اللبنانية ذاتها.

وتوضح هايتيان: “هناك من يقول إن لبنان خسر نحو 5,000 كيلومتر مربع من مياهه، لكن الدراسات الرسمية، ولكن هذه التقديرات تعتمد على تفسيرات مختلفة لاتفاقيات الترسيم والقوانين الدولية الخاصة بالحدود البحرية.” وتضيف: “الاختلاف في الأرقام لا يعني فقط فجوة في الحسابات، بل يعكس عمق الجدل السياسي حول كيفية قراءة الحدود البحرية اللبنانية، كما حدث تمامًا في ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل.”

من اتفاق 2007 إلى المرسوم 6433... لبنان يصحّح المسار

تعود القصة إلى عام 2007، حين وقّع لبنان اتفاقًا لترسيم حدوده البحرية مع قبرص استند إلى النقطة رقم (1) جنوبًا. لكن البرلمان اللبناني لم يصادق عليه لاحقًا. وفي عام 2011، أصدر لبنان المرسوم رقم 6433 الذي اعتمد النقطة رقم (23) كنقطة جديدة للحدود الجنوبية، وأودعها لدى الأمم المتحدة، لتصبح المرجعية القانونية الرسمية لأي مفاوضات مقبلة.

تقول هايتيان: “عندما وقّعت قبرص اتفاقًا جديدًا مع إسرائيل عام 2010 مستخدمة النقطة نفسها (1)، اعتبر لبنان أن ذلك يشكّل تعديًا على حقوقه البحرية. ومن هنا جاء المرسوم 6433 كخطوة لتثبيت موقف لبنان أمام الأمم المتحدة وحماية مساحته البحرية من أي تجاوز.”

وبحسب دراسات أعدّها الجيش اللبناني ووزارة الخارجية عامَي 2010 و2011، تُقدَّر مساحة المنطقة المتنازع عليها بنحو 2,643 كيلومترًا مربعًا، في حين تشير تقديرات أخرى غير رسمية إلى احتمال أن تصل الخسارة إلى نحو 5,000 كيلومتر مربع.

البلوك رقم 8... قلب المعركة الجديدة

يتحوّل البلوك البحري رقم 8 إلى محور النقاش اليوم. فهو يقع في المنطقة الحساسة جنوب غرب لبنان، حيث تتداخل مصالح الشركات الدولية مع خطوط الترسيم القديمة. وتكشف هايتيان أن هذا البلوك “قد يكون غنيًا بالغاز الطبيعي بشكلٍ يجعل أي تعديل في الحدود مع قبرص ينعكس عليه مباشرة”.

وفي عام 2024، منح لبنان ترخيصًا لإجراء مسح زلزالي استعدادًا لعمليات حفر محتملة في 2025، بإشراف شركة توتال الفرنسية. لكن الطريق إلى الاستكشاف ليس سهلاً، إذ تقول هايتيان إن “التأخير في المشاريع يعود إلى التعقيد السياسي الداخلي، وغياب الاستقرار القانوني الذي تحتاجه الشركات العالمية للمضي قدمًا في الاستثمار”.

بين الجغرافيا والسياسة... من يملك البحر؟

الملف البحري اللبناني لم يعد قضية ترسيم حدود فحسب، بل أصبح جزءًا من معادلة أمن الطاقة في شرق المتوسط. فلبنان يجد نفسه في تقاطع مصالح بين إسرائيل، قبرص، تركيا، ومصر، بينما يراقب الاتحاد الأوروبي تحركاته عن كثب، في إطار مساعيه لتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الغاز الروسي.

وتصر هايتيان على أن “التحدي ليس في التفاوض الخارجي فقط، بل في توحيد الموقف الداخلي. يجب أن يكون هناك استقرار قانوني ومؤسساتي كي يتمكن لبنان من استثمار ثرواته البحرية بثقة، وإلا سيبقى الملف مجمّدًا رغم كل الإمكانات.”

المرسوم 6433... السلاح القانوني الأخير

مع كل هذا التشابك، يبقى المرسوم 6433 الورقة الأقوى بيد الدولة اللبنانية لتثبيت حقوقها.

فهو ليس مجرد وثيقة إدارية، بل إعلان سيادي أمام الأمم المتحدة، يضمن للبنان قانونيًا مساحة مياهه الاقتصادية في مواجهة أي تجاوز أو اتفاق جانبي بين جيرانه.

وتختم هايتيان حديثها بتأكيد واضح: “نجاح لبنان في تحديث اتفاق الترسيم مع قبرص سيعني استعادة نحو 2,500 كيلومتر مربع من مياهه الاقتصادية، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستثمار في قطاع الطاقة. لكن الشرط الأول هو الوضوح القانوني والقرار السياسي الموحد.”

ما وراء الأرقام... معركة هوية وسيادة

لا يتعلق ملف الحدود البحرية بخطوطٍ على خريطة، بل بهويّة وطنٍ يحاول تثبيت مكانه في بحرٍ مزدحم بالمصالح. وفي ظل أزمات لبنان السياسية والاقتصادية، يصبح هذا البحر فرصة نادرة للنهوض، إذا ما أُحسن استثماره ضمن رؤية وطنية جامعة.

ويبقى السؤال الذي يعلّق في الأفق:

هل يتمكّن لبنان من استعادة ما خسره في البحر… أم يغرق مجددًا في عمق خلافاته الداخلية قبل أن يلمس ثرواته الغازية؟


المنشورات ذات الصلة