عاجل:

مشاهدات من دمشق: مرحلة مخاض طويل’... في انتظار استقرار وأمان غاب عن السوريين لفترة طويلة (خاص)

  • ٢٨

خاص – "إيست نيوز"

وسام عبدالله

وصلت بنا سيارة الأجرة إلى معبر جديدة يابوس الحدودي، حيث تبدأ ملامح "سوريا الجديدة" بالظهور: من العلم السوري الجديد والشعارات المرفوعة، إلى اختفاء الصور القديمة. مظهرٌ يوحي بأن البلاد تدخل رسميًا مرحلة "ما بعد الأسد" من حيث الشكل، أما في المضمون، فهنا تبدأ رحلة طويلة مليئة بالتناقضات التي يحاول المواطن لملمتها في سعيه لفهم بعض زوايا المشهد السوري العام.

 العبور نحو دمشق

 داخل صالة ختم الجوازات، موظفون يحاولون التأقلم مع وظائفهم الجديدة. لا يرتدون زيًّا موحّدًا بعد، ومعظمهم تسلّم مهامه منذ أشهر قليلة، يسعى للتعامل مع مختلف الحالات من وثائق أجنبية ودبلوماسية وأوراق ناقصة. إدارة الحدود استغنت عن معظم العاملين السابقين وأبقت على القلّة لتدريب الجدد، إلا أن الانطباع العام لدى القادمين أن المعاملة أصبحت “أكثر من ممتازة”.

 بين جانبي الحدود، لا تزال حركة التهريب قائمة بأساليب مبتكرة. سائق سوري يعبر برفقة والدته أو زوجته اللبنانية ليحصل على إذن الدخول، ثم ينتظر المهربين على الطرف المقابل لتأمين البنزين أو المازوت، في مشهد تسعى الجمارك السورية واللبنانية للحدّ منه.

 ولا يزال الالتباس قائمًا بشأن المشروبات الكحولية، فبمجرد قدومك من لبنان، يُفترض أنك تحمل زجاجة نبيذ في حقيبتك. بعض العناصر يصادرها، وآخرون يغضّون النظر عنها، مكتفين بالتحذير من تكرارها.

في الطريق نحو دمشق، تمرّ عبر حواجز عسكرية تغيّر طابعها. فالسائقون يؤكدون أنه لم يعد هناك "دفع رشاوى" للعساكر كما كان الحال قبل سقوط النظام. في الأيام الأخيرة ظهرت لوحات بيضاء صغيرة على أعمدة الكهرباء لم تكن موجودة سابقًا، تحمل شعارات دينية مثل “الله أكبر” و”محمد رسول الله”.

 جولة في العاصمة

 في قلب دمشق القديمة، يبدو الزمن متوقفًا على إيقاع صوت فيروز الخارج من المقاهي. تغيّرت المظاهر السياسية والأمنية في العلاقات اللبنانية ـ السورية، لكن الفن اللبناني لا يزال يطغى على صباحات المدينة، من زكي ناصيف وفيلمون وهبي وغيرهما.

 المارة في سوق الحميدية والحريقة والقيمرية يشكّلون مشهد متنوّع ومتناقض، شباب يرتدون "الشورتات"، وآخرون بعباءات رمادية قدموا من ريف سوريا الشرقي، نساء بين منقّبات ومتحرّرات، وأجانب يحملون الكاميرات يسجلون ملاحظاتهم بفضول السائح أو الصحفي.

 مقاهي السهر ما زالت تعمل رغم بعض التضييق على تقديم المشروبات الروحية. فهناك أفراد دخلوا إلى المحال، دون قرار رسمي، وطالبوا بوقف الكحول، لكن متاجر أخرى ما زالت تبيعها علنًا، وتأمينها بطرق بديلة أو عبر الفنادق الكبيرة، أو بتساهل من مسؤولي الأحياء.

 في الأسواق، المنتجات تُسعّر اليوم بالليرة والدولار معًا، في اعتراف بتغيّر قواعد الاقتصاد. البضائع الأجنبية تملأ المحلات إلى درجة أن كثيرين يرون أن الشراء من لبنان لم يعد ضروريًا كما في السابق. ومع ذلك، يبقى القلق على الصناعة المحلية حاضرًا، خاصة بعد فقدان كثير من الكفاءات والخبرات الإدارية القديمة.

 ورغم هذه التبدلات، يسود الهدوء في معظم أحياء دمشق. لجان شعبية تتعاون مع المحافظات لضبط الأمن والخدمات، وحواجز الأمن العام تنتشر عند مداخل المدن.

 في جرمانا بريف دمشق، ذات الغالبية الدرزية، يسود الاستقرار بعد الأحداث الأخيرة، فالحواجز هناك تعمل بتنسيق مع وجهاء المدينة، والعلم السوري الجديد مرفوع في الساحات. أما في بلدة عقربا المجاورة، فيُرفرف علم التوحيد إلى جانب العلم السوري. وعند المرور أمام جوبر وعربين، التي كانت خطوط تماس بين الريف والمدينة، تبدو الأبنية المهدّمة وكأن الحرب انتهت البارحة، إذ لم تدخل هذه المناطق فعليًا في ورشة الإعمار.

 في كنيسة مار الياس في دويلعة، ما تزال ورشة البناء والترميم مستمرة بعد التفجير الذي وقع فيها قبل أشهر.

 وفي ساحة باب توما، اختفت حافلات الحجاج الإيرانيين الذين كانوا يتوافدون يوميًا إلى مقام السيدة رقية في دمشق القديمة. أما فرق الكشافة والشبيبة المسيحية، فما زالت تمارس نشاطاتها الأسبوعية، مع تبدّل وحيد في التفاصيل بالعلم السوري الجديد على قمصانهم.

 نبض السياسة والناس

 النقاشات السياسية لا تتوقف، أحيانًا بحرية تامة وأحيانًا بحذر. فالكلمة هنا قد تُستقبل بالإعجاب أو بالريبة، ليس خوفًا من رجال الأمن بل من أفراد لا يتقبلون النقد للسلطة الجديدة.

الهمّ اليومي واحد، بتأمين السيولة من المصارف لتغطية احتياجات المعيشة، إذ تفرض البنوك سقفًا صارمًا على السحب. الخوف من الدراجات النارية وحوادث الخطف العرضية يرافق الأحاديث اليومية.

 أما المدارس والمناهج الجديدة، فهي موضوع نقاش واسع. يخشى البعض أن تتحول إلى مساحة لفرض التشدد أو تغيير عادات المجتمع. في إحدى المدارس الخاصة، حاولت مجموعة الاعتراض على ارتداء الطلاب والطالبات لملابس الرياضة القصيرة خلال الحصة، لكن إدارة المدرسة وأهالي الطلاب رفضوا، وانسحبت المجموعة دون أن تُفرض أي تغييرات.

 ما سجل في دمشق لا ينسحب بالضرورة بشكل كامل على باقي المحافظات، لكن الطابع العام، أن البلاد في مرحلة مخاض طويل، في انتظار استقرار وأمان غاب عن السوريين لفترة طويلة.


المنشورات ذات الصلة