عاجل:

المطروح أسوأ من 17 أيار: لبنان يُساق إلى الذبح (الأخبار)

  • ٢٩

كتبت ميسم رزق:

في منتصف هذا الشهر، صرّح رئيس الجمهورية جوزيف عون بأنْ «لا بدّ من التفاوض مع إسرائيل لحل المشاكل وتجنّب الدمار»، في موقف لم يكن «يتيماً»،. إذ سبقته وتلته مواقف مشابهة لجهات لبنانية، بعضها كان حليفاً للمقاومة قبل حرب الإسناد على غزة. هؤلاء جميعاً، ممن انخرطوا في الحلف الأميركي – السعودي، سلّموا بعد عامين من الحرب الأكثر دموية في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، بأن الحروب تقاس بميزان الدمار لا بمن خرج منتصراً في ميدان الشرعية والوعي. وفيما تسوّق أميركا وحلفاؤها في الشرق الأوسط للسلام على أنه استجابة ضرورية لمتغيّرات المرحلة، ينخرط هؤلاء في عملية التسويق نفسها، معيدين النقاش حول هوية البلد إلى الواجهة، في محاولة لإحياء طروحات خارج السرديات السياسية التقليدية، ومنحها ما فقدته طويلاً: شرعيتها الوطنية.

ومنذ توقّف الحرب صورياً في 27 تشرين الثاني الماضي، برزت رسالة سياسية واضحة: لا مجال للتراخي، فقد حان وقت الحسم الداخلي. فحزب الله هُزم، واغتيل قادته، ودُمّرت قدراته العسكرية وهو في حالة انهيار. وحان وقت المعركة الداخلية للإجهاز على ما تبقّى منه.

وفي الأيام الأولى لما بعد الحرب كان الهدف واضحاً: إنتاج سلطة تنفيذية تستجيب للوصاية الأميركية، بجدول أعمال يبدأ بنزع سلاح المقاومة. وفعلاً، جاءت النتائج السياسية الأولى سريعاً: انتخاب عون، وتسمية نواف سلام لتشكيل الحكومة، ثم سلسلة قرارات استهدفت تقويض شرعية المقاومة، ولا سيما في جلستَيْ 5 و7 آب الشهيرتين.

واستطاعت الآلة الإعلامية المُكلّفة بخدمة هذا المشروع أن تُبقي كلّ الملفات الأخرى في الهامش، وكأن ليس في لبنان سوى سلاح حزب الله الذي يجب نزعُه. بات كل شيء مرتبطاً بهذا الهدف: السياسة، الأمن، الخطاب العام، وحتى صورة على صخرة!

تدريجياً، انكشفت الأهداف الحقيقية: ليس حزب الله وحده المُستهدف، بل لبنان ككيان، شأنه شأن سوريا ودول أخرى يرى فيها العدو تهديداً يجب تحييده ولو أدّى ذلك إلى خرابها. وفي الداخل، هناك مسؤولون وقادة تراودهم الأحلام بالفيدرالية ودويلة الحوض الخامس، ويدركون أبعاد هذا المشروع ويعملون لتحقيقه، ويرسمون لـِ«لبنانهم» كانتوناً يمتدّ من كفرشيما إلى المدفون، وهم واعون تماماً لما تصبو إليه إسرائيل من المفاوضات المطلوبة: شرعنة الاحتلال، اقتطاع أجزاء من الوطن، وتحويله إلى جزر طائفية متقاتلة.

ومن يتتبّع تصريحات المسؤولين الأميركيين، وما ينقله الموفدون الأجانب والعرب إلى بيروت بشأن «المفاوضات المطلوبة» مع العدو، فلن يجد صعوبة في إدراك أن المقصود هذه المرة مختلف تماماً عن مفاوضات الماضي، من اتفاق الهدنة عام 1949 مروراً وصولاً إلى اتفاق الـ 1701 عام 2006. وإذا وسّع المرء تدقيقه ليشمل ما يُتداول بشأن المفاوضات مع سوريا، يتضح أن النقاش لا يقتصر على بلد واحد؛ فالمطلوب من سوريا مطلوبٌ من لبنان أيضاً.

مشكلة العدو الإسرائيلي بعد كل ما حصل أنه اكتشف أن حربه لم تحقّق مكاسب استراتيجية، بل إنجازات سرعان ما تبيّن أنها عادت بنتائج عكسية. سوريا، على سبيل المثال، لا تزال عصيّة على التطبيع أو على القبول بأي ترتيبات أمنية، ولا علاقة للنظام الجديد بالأمر، إذ إنه مجرّد نسخة مكرّرة عن السلطة اللبنانية الحالية الخاضعة، ولا تُميّز المُسيّرات بين سماء الشام وسماء بيروت. لكنّ الوقائع التي نشأت بعد سقوط النظام السابق، بما فيها تعزيز النفوذ التركي وتمدّده، فضلاً عن نشاط الحركات الإسلامية غير التابعة للجولاني، والتي تعتبرها إسرائيل تهديداً محتملاً لها، رفعت لدى العدو منسوب الشعور بالخطر.

وفي لبنان، تدرك تل أبيب جيداً هلوسات خصوم الحزب وكلامهم عن هزيمته، وتعلم أن الحرب على حزب الله لم تُنهِه، بل أعادت تشكيله، وهو في طور إعادة ترتيب بيته الداخلي، واستعادة زخمه التنظيمي، وتطوير بنيته العقائدية والميدانية. وبناءً على ذلك، تستعجل الوصول إلى اتفاق وفق الظروف الراهنة.

بعد كل حرب، تسعى إسرائيل من خلال المفاوضات إلى تحقيق أهداف قد تكون عجزت عن بلوغها بالعمليات العسكرية، وتتصرّف دوماً كما لو أنها الطرف المنتصر الذي يُملي شروطه، حتى وإن تعثّرت في تحقيق بعض هذه الأهداف. لكنها لم تنجح في أي مرة في انتزاع ما ترغب فيه بسبب موازين القوى على الأرض التي كانت تتحكّم بالمسار السياسي. أمّا اليوم، فالوضع مختلف، إذ تسعى إلى مفاوضات مستندة إلى الردع الذي فرضته من جانب واحد، في محاولة لفرض شروط الاستسلام على لبنان، والوصول إلى ما هو أبعد من تطبيق القرار 1701، وقبل أن تستقرّ موازين القوى بشكلها النهائي، مستفيدة من غياب الأطراف الخارجية عن عملية التفاوض، فيما تستفرد الولايات المتحدة بدور «الوسيط».

لم يسبق للبنان أن مرّ بظرف مماثل. يتفق على ذلك عدد من السياسيين الذين عايشوا محطات عديدة في الصراع. فهناك سجلّ حافل من الحروب الإسرائيلية على لبنان، من اجتياحاتها لحدوده الدولية وانتهاك سيادته الوطنية منذ توقيع اتفاق الهدنة في 23 آذار 1949 وحتى اليوم. ومن أبرز هذه الأحداث: الغارة على مطار بيروت (1968)، عملية الليطاني (1978)، عملية «سلامة الجليل» (1982)، عملية «تصفية الحساب» (1993)، عملية «عناقيد الغضب» (1996)، حرب تموز (2006)، وصولاً إلى طوفان الأقصى (2023 - 2024).

وباستثناء الحرب الأخيرة، يرى بعض من عايشوا تلك الفترة أن غالبية الاتفاقات التي أعقبت هذه الحروب اتّسمت بقواسم مشتركة. فمثلاً، بعد معركة المالكية التي خاض فيها الجيش اللبناني مواجهات عنيفة مع القوات الإسرائيلية، بدأت مفاوضات بوساطة الأمم المتحدة أسفرت عن توقيع اتفاق الهدنة عام 1949، وتضمّن «وقف الأعمال العدائية»، وتحديد خط الهدنة، واحترام الحدود الدولية، وإنشاء لجنة الهدنة المشتركة. ويشبه هذا الاتفاق ما حصل بعد حرب تموز، لجهة الدخول في هدن طويلة، الأولى استمرت 20 عاماً والثانية 17 عاماً. وقد أتت هذه الهدن بطبيعة الحال بعد حروب تشكّلت فيها موازين القوى وأدّت إلى مفاوضات بغطاء دولي نتجت منها صيغ تخدم مصلحة للبنان.

وينطبق الأمر أيضاً على اتفاق عام 1981، بوساطة المبعوث الأميركي فيليب حبيب، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية لوقف إطلاق النار. وألزمت الاتفاقية منظمة التحرير بوقف جميع الهجمات على إسرائيل، مقابل توقّف الأخيرة عن الهجمات على لبنان.

ولا يختلف التفاهمان اللاحقان (تموز 1993، ونيسان 1996) عن الاتفاق المذكور، إذ نجحت المقاومة في لبنان في تنظيم قواعد الاشتباك على الجبهة الحدودية، مع مراعاة عدم استهداف المدنيين، بعد عمليات القصف الصاروخي التي طاولت المستوطنات. ومع ذلك، لم تتوقف عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، حتى أجبرت إسرائيل على إنهاء احتلالها لمعظم المناطق في أيار 2000، وكانت تلك المرة الأولى التي تنسحب فيها إسرائيل من أرض عربية محتلة من دون مفاوضات أو مقايضة.

في سياق الحديث عن هذه الاتفاقيات جميعها، يبرز عامل أساسي ساهم في التوصّل إلى صيغ متوازنة، وهو تدخّل القوى الإقليمية والدولية. ففرنسا في عهد شيراك، وسوريا في عهد الأسد، وأحياناً الجمهورية الإسلامية، إلى جانب الولايات المتحدة، شكّلت مظلات إقليمية ودولية ساعدت على إنتاج تفاهمات متوازنة، مع التأكيد على أن الصمود والقتال في الميدان شكّلا العمود الفقري لهذه التفاهمات.

السياق هذه المرة كان مختلفاً. في لبنان، اعتبر بعضهم أن نتائج العدوان الصهيوني أكّدت التفوّق الإسرائيلي وفتحت باباً «مثالياً» للتخلص من حزب الله، بينما تعاملت تل أبيب وواشنطن بواقعية أكبر مع الحدث، معتبرتين أن الوقت محدود لاستثمار هذه اللحظة سياسياً واستراتيجياً.

لم تكن محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو أرغوف عام 1982، سوى ذريعة استخدمتها إسرائيل لشنّ حرب واسعة على لبنان؛ وكذلك كانت حرب الإسناد ذريعة أخرى، لكنّ عقلية العدو تغيّرت بعدها، إذ لم تعد لديه تابوهات، وذهب بعيداً في الاستخدام المُفرط للقوة ضد المدنيين، وفي وحشيته ودمويته في غزة كوسيلة لإرهاب كل «متمرّد». وأدّت هذه السياسات، ولا سيما بعد الضربات النوعية التي استهدفت قيادات المقاومة، ومن بينها استهداف السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين، إلى دفعنا نحو مفاوضات تهدف عملياً إلى «سلخ الجلد» وفرض شروط استسلامية.

الكارثة تكمن في تجاهل صمود المقاومة في الميدان والهرولة نحو اتفاق هو الأسوأ من نوعه على الإطلاق. فقد تخلّى لبنان عن نقطتين أساسيتين كانتا ركيزتين أساسيتين في أيّ تفاهم سابق: أولاً، وقائع الميدان التي أعادت تحقيق توازن نسبي دفع رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، حسب اعتراف المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين، إلى طلب وقف إطلاق النار؛ ثانياً، وجود رعاية دولية تمنع الاستفراد بلبنان. في المقابل، خضعت سلطة ما قبل الحرب للمطالب الأميركية ووافقت على إخراج إيران من حلبة التفاوض.

تجلّى ذلك حين صرّح رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف بأن طهران مستعدّة للتفاوض مع فرنسا بشأن تطبيق القرار 1701، فردّ عليه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالقول إن تصريحه «تدخّل سافر في الشؤون اللبنانية». بقيت إيران خارج المعادلة، بينما دخلت فرنسا بعد إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري لتكون ضمن الجهات الضامنة. وافقت إسرائيل على مضض، ومع ذلك بقي الدور الفرنسي هامشياً، بل إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سخّر قدرات بلاده لحماية المصلحة الإسرائيلية. والنتيجة كانت اتفاقاً لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع بين لبنان والعدو، من حيث خطورته التي تتجاوز حتى خطورة وسوء اتفاق 17 أيار.

اتفاق 17 أيار لم يكن سوى محاولة لفرض تسوية مذلّة على لبنان، بإرادة أميركية - إسرائيلية، وفي لحظة اختلال كامل لتوازن القوى داخل البلاد بعد الاجتياح، لكنه لم يصل إلى التنفيذ الفعلي. آنذاك، لم تكن إسرائيل راغبة حقاً في التوصل إلى اتفاق، وهو ما أكّده وزير خارجية لبنان السابق إيلي سالم في كتابه «الخيارات الصعبة»، مشيراً إلى أن إسرائيل كانت تطرح في كل جولة تفاوض شروطاً جديدة، وأن ربط انسحابها من لبنان بانسحاب القوات السورية من البقاع كان أحد المؤشرات إلى غاياتها الحقيقية.

اليوم تسعى إسرائيل لتحصيل أكثر مما نالته في اتفاق تشرين الثاني 2024، عندما حصلت على «ضوء أخضر» من الولايات المتحدة للتصرّف بحريّة، فاستغلّت التزام المقاومة بالاتفاق وفرضت ردعاً أُحادياً تُترجمه يومياً باغتيالات وتدمير واستباحة للأجواء اللبنانية. ولا علاقة لذلك بثقتها بأن الابتكارات التكنولوجية كفيلة بالقضاء على حزب الله من دون كلفة؛ فالمعادلة أعقد من أن تُحسم بتقنيات فحسب.

على نحو عاجل هوت سوريا، وسقط النظام والجيش. شعرت إسرائيل بأنها استعجلت الاتفاق، وسرعان ما بدأت تصعيد اعتداءاتها تدريجياً. وثمة قناعة بأن المشهد الحالي لم يكن ليحصل لولا سقوط سوريا، العمق الاستراتيجي للمقاومة، ما منح العدو الإسرائيلي اليد الطليقة، في سوريا ولبنان، كما في غزة.

وكما تتصرّف إسرائيل أمنياً وعسكرياً في الساحات الثلاث، فهي تسعى أيضاً إلى صياغة اتفاقات تثبت فيها نفوذها واحتلالها قبل حصول أي تغييرات في ميزان القوى في هذه الساحات. ونادراً ما تُذكر دمشق على لسان المسؤولين في واشنطن وتل أبيب من دون ربطها ببيروت. وحدة المسار والمصير بين العاصمتين هي عنوان بارز للمرحلة الحالية، والمطلوب منهما الاستسلام والتوقيع معاً. تل أبيب تطالب لبنان وسوريا بما هو أبعد من أي اتفاق أمني، وتريد من السلطتين الحاليتين أن تُقِرّا بالسلوك الأمني الذي يمارسه جيش العدو وشرعنة الاحتلال في الجنوبين السوري واللبناني، وجعل البلدين خالييْن من سكّين تهدّد أمن المستوطنين. ولا بأس بدخول العاصمتين لحماية عمقها بمباركة الحكومة تحت غطاء التنسيق الأمني!

قد لا يكون ذلك ممكناً، لكنّ حكومة نواف سلام تبدو بلا مهمة سوى تمهيد الطريق لمطالب إسرائيل، حتى إن بعض المخضرمين يصفونها بأنها أخطر حكومة ثلاثية لا ثلاثينية. إلى جانب نواف، يجلس وزراء على مستوى أممي، جُلبوا لخوض مفاوضات شاقّة تتجاوز الحدود اللبنانية، والحديث الحاسم اليوم يبدأ من التنازل عن مزارع شبعا باعتبارها سورية، ليكون تحصيلها من إدارة أحمد الشرع أسهل.

لبنان بدأ يشقّ طريقه نحو هذه المفاوضات، عبر جوزيف عون الذي يواجه «جبناً» من جانب سلام، ما دفعه إلى طلب الغطاء الشيعي عبر الرئيس بري، إذ لا يستطيع صياغة المسار وحده، وإلا كان مصيره كمصير اتفاق 17 أيار. اللافت أن الرئيس بري سارع بدوره إلى نسف هذا الطرح، كاشفاً أن مسار التفاوض المُقترَح سقط نتيجة رفض تل أبيب التجاوب مع المقترح الأميركي، مؤكّداً أن المسار الوحيد حالياً هو مسار «الميكانيزم».

أمّا خارجياً، فالضغط يُمارس على مستويين: الأول سياسي، يقوده المبعوثون الأميركيون، من بينهم مورغان أورتاغوس التي تصل إلى بيروت غداً قادمة من إسرائيل للمطالبة بتوسيع لجنة «الميكانيزم» لتضم سياسيين لبنانيين وإسرائيليين، فتتحوّل المفاوضات إلى مباشرة كما يحصل في سوريا. والمستوى الثاني هو التهديد بعصا النار الإسرائيلية، سواء علناً أو عبر وسطاء. قبل أيام، صرّح أحد الأمنيين العرب أمام ضباط الأجهزة الأمنية بأن لبنان يوشك على الانزلاق إلى حرب طاحنة.

قد تكون الحرب المحتملة، بالنسبة إلى إسرائيل وشركائها في اتفاقيات أبراهام، الوسيلة الوحيدة لإجبار لبنان على اتفاق مُذِلّ واستسلام كامل، من دون أي ضمانات لالتزامها بما قد تتعهّد به، استناداً إلى تجارب التفاوض السابقة. أما بالنسبة إلى آخرين، فهي السبيل الوحيد للخروج من مشهد الاستنزاف الراهن، إذ إن إسرائيل لن ترتدع إلا حين تبدأ بتكبّد الخسائر مجدّداً.

المنشورات ذات الصلة