عاجل:

المقالع والكسارات في لبنان: جروح الطبيعة وصرخة القرى من مظاهرها... القوانين موجودة… لكن الدولة غائبة (خاص)

  • ٨٤

خاص- "ايست نيوز "

عصام شلهوب

تنهض جبال لبنان كحراسٍ للعمران والذاكرة، لكن سفوحها تتهاوى اليوم تحت جرافاتٍ لا تعرف التوقف. بين ضجيج الكسارات وصرخات الشاحنات المتوقفة على الطرقات، يكمن ملفٌّ من أثقل الملفات الاقتصادية والبيئية في لبنان: قطاع المقالع والكسارات، ذاك المورد القادر — لو أُدير بصدق وعدالة — على سدّ جزءٍ معتبرٍ من عجز الموازنة العامة، لكنه تحوّل إلى رمزٍ للنهب المنظَّم واللامحاسبة.

ثروةٌ كامنة… في العراء

يمتدّ هذا القطاع على مساحةٍ جغرافيةٍ واسعة تشمل معظم جبال لبنان، لا سيما في المتن وكسروان والبقاع وعكار. ورغم صدور المرسوم 8803/2002 الذي يحدّد أطر تنظيم العمل في المقالع، لا تزال الفوضى سيدة الموقف. فبحسب آخر دراسة مشتركة بين وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، تُقدَّر المستحقات المهدورة على خزينة الدولة بما لا يقلّ عن 2.39 مليار دولار نتيجة غياب الجباية والرقابة على الرسوم والحقوق البيئية.

يتجاوز عدد المقالع والكسارات العاملة فعليًا الألف موقع، فيما لا تتعدى الرخص القانونية الممنوحة 150 موقعًا فقط. أمّا الإنتاج السنوي فيقدَّر بمئات ملايين الأطنان من المواد الحجرية والبحص والرمل، لتغذية قطاعٍ إنشائيٍّ متضخّم لا يراعي البيئة ولا المصلحة العامة.

إضراب الشاحنات… واجهة أزمة أعمق

تجمّعت بداية الأسبوع الجاري عشرات الشاحنات في منطقة ضهر البيدر- بوابة البقاع - ومستديرة أوتوستراد زحلة، معلنةً الإضراب. السبب: حملة الدولة لضبط الشاحنات المخالفة ومصادرة مركباتٍ تعمل بلا ترخيص، بينما تُترك المقالع الكبرى تعمل في الظلّ. يقول أحد السائقين المحتجين: «نحن مجرّد أجراء. أصحاب المقالع لا يدفعون الرسوم ولا يسوّون أوضاعهم، والدولة تلاحقنا نحن».

الإضراب ليس سوى مرآةٍ تعكس انقسامًا قاسياً: بين دولةٍ تحاول فرض القانون من طرفٍ واحد، وعمالٍ مسحوقين بين فكيّ الأزمة. فبينما تكتفي القوى الأمنية بإيقاف الشاحنات، تبقى المحاجر تعمل مستفيدة من الغطاء السياسي أو الإداري الذي يحميها.

أين تذهب الأموال؟

المال في هذا القطاع يتوزع على ثلاث دوائر نفوذ أساسية:

 1. أصحاب المقالع الكبار الذين يملكون علاقات سياسية أو محلية متينة، تمكّنهم من تجديد تراخيص أو تجاوز الغرامات.

 2. شبكات النقل والوسطاء الذين يجنون أرباحًا طائلة من عمليات التوريد إلى مشاريع البناء العامة والخاصة.

 3. تشتت الصلاحيات بين الوزارات البيئة، الأشغال، الداخلية، البلديات ،وهو ما يجعل المحاسبة شبه مستحيلة.

النتيجة: دولةٌ فقيرة فوق أرضٍ غنية، وثروةٌ تُستخرج بلا مقابل. فلو جُمعت الرسوم والغرامات والمستحقات المتأخرة، يمكن أن يدخل إلى الخزينة ما لا يقلّ عن 150 مليون دولار سنويًا، وهي مبالغ كفيلة بتمويل مشاريع بنية تحتية وتنمية محلية.

جروح الطبيعة وصرخة القرى

في المناطق الجبلية، تبدو المقالع كندوبٍ عميقة على وجه الطبيعة. جبالٌ مسلوخة الجلد، وغبارٌ كثيف يعلّق في الهواء ويمتدّ إلى صدور الناس. تقول سيدة من إحدى قرى البقاع: «لم نعد نفتح النوافذ. الغبار يدخل البيوت ويخنق الأطفال». أما المزارعون، فقد خسروا أراضيهم ومياههم بعدما تلوّثت الينابيع بمخلّفات التفجير والتكسير.

البيئة ليست المتضرّر الوحيد؛ فالمجتمعات المحلية تفقد مداخيلها من الزراعة والسياحة، فيما ترتفع كلفة العلاج من أمراض الجهاز التنفسي. الكارثة هنا ليست بيئية فقط، بل إنسانية أيضًا.

القوانين موجودة… لكن الدولة غائبة

تملك الدولة اللبنانية منظومة قانونية واضحة، لكن الفساد وتداخل الصلاحيات يعطّلان التنفيذ. القانون يفرض دراسة بيئية شاملة لكل مقلع، وغرامات على التشغيل غير المرخّص، غير أن النفوذ السياسي يجعل تلك النصوص حبراً على ورق. بعض المقالع تُغلق نهارًا وتعود للعمل ليلاً، فيما تُمنح تراخيص استثنائية بموجب قرارات ظرفية.

هذا الانفلات جعل القطاع ساحة مفتوحة لتضارب المصالح. وزارة البيئة تتذرع بعدم وجود عديد كافٍ للمراقبين، ووزارة المالية لا تحصل على الرسوم، والبلديات تخضع لضغوط أهلية وسياسية ومنافع خاصة.

كيف يمكن إنقاذ القطاع؟

الإصلاح يبدأ من الإرادة السياسية. يمكن للبنان أن يحوّل هذا القطاع إلى مصدر تمويلٍ أساسي عبر الخطوات التالية:

 1. إجراء جرد وطني شامل باستخدام صور الأقمار الاصطناعية لتحديد المواقع النشطة وغير المرخصة.

 2. فرض رسوم بيئية موحدة وتخصيص 20% منها لإعادة تأهيل الجبال المتضرّرة.

 3. رقمنة الرخص والعمليات لربط كل شاحنة ومقلع ببيانات تشغيل محددة تمنع التهرب.

 4. تشديد العقوبات على المقالع غير القانونية وإقفالها نهائياً بعد مهلة محددة للتسوية.

 5. إشراك البلديات والمجتمع المدني في الرقابة لضمان الشفافية.

المقالع ليست قضية حجارة فقط؛ إنها قصة وطنٍ تُنهب جباله أمام عيون أبنائه. تحت الغبار الكثيف، تختبئ ثروة قادرة على سدّ جزءٍ من عجز الموازنة وإنعاش الاقتصاد المحلي. لكن طالما تُرك هذا القطاع نهباً للنفوذ، سيبقى الغبار وحده يملأ الهواء، بينما تظلّ الخزينة خاوية.

في النهاية، لا خلاص إلا بتطبيق القانون بصرامةٍ وشمولية، وبأن يتحوّل هذا المورد الطبيعي من لعنةٍ بيئية إلى نعمةٍ وطنية ترفد لبنان بما يحتاجه من أوكسجين اقتصادي ومالي.


المنشورات ذات الصلة