خاصّ - "إيست نيوز"
لم تعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان مُجرّد أرقام في تقارير المؤسّسات الدولية، بل تحوّلت إلى واقع يومي يعيشه المواطن بكل تفاصيله، من ارتفاع الأسعار وفقدان الوظائف، إلى انقطاع الخدمات الأساسية وتراجع القدرة الشرائية. وهذه الأوضاع لم تنعكس على الجانب المعيشي فحسب، بل تركت أثراً عميقاً على الصحة النفسية للبنانيين، لتصبح المعاناة النفسية واحدة من أخطر تداعيات الانهيار المُستمرّ.
القلق والاكتئاب واضطرابات النوم
خبراء الصحة النفسية يحذّرون من أن الضغوط المُتراكمة، من القلق بشأن المستقبل إلى الشعور بعدم الأمان، تؤدّي إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب، والقلق المزمن، وحتّى اضطرابات النوم. كما أن فقدان الأمل والانسداد السياسي والاقتصادي يدفعان الكثيرين إلى حالة من الإحباط المستمر، فيما يجد آخرون أنفسهم في مواجهة نوبات غضب أو عزلة اجتماعية.
تحليل نفسي للأزمة اللبنانية
يؤكّد المُحلّل النفسي ورئيس قسم التدريب في مؤسّسة "نفسانيون" الدكتور إيلي أبو شقرا في حديثه إلى لـ "إيست نيوز"، أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها لبنان لا تقتصر على كونها أزمة معيشية، بل هي أيضاً أزمة نفسية عميقة تعيد فتح جروح قديمة في البنية الداخلية للفرد.
ومن منظور التحليل النفسي، فإن الانهيار الخارجي يفعّل خبرات الحرمان المبكر وفقدان الأمان الأولي، ويستدعي مشاعر العجز والخوف من الفقد التي خبرناها في مراحل الطفولة الأولى. هذه المشاعر، عندما تُثار بشكل مفاجئ ومكثف، قد تدفع الأفراد إمّا نحو القلق المُفرط والاندفاعية، أو نحو الانسحاب والاكتئاب، أو حتى نحو النكوص (regression) إلى أساليب دفاعية بدائية.
كما يمكن أن تؤدّي إلى انقسامات داخل المجتمع، حيث يُسقط الأفراد مخاوفهم وغضبهم على الآخر المختلف، بحثاً عن توازن داخلي مفقود.
الروابط الإنسانية والدعم النفسي
في هذه المرحلة، تلعب الروابط الإنسانية الحقيقية دور “الحاوية” (Container) التي تستقبل الانفعالات المربكة وتساعد على مُعالجتها بدلاً من تفريغها بشكل مدمّر. وعليه فإن العلاج النفسي، سواء الفردي أو الجماعي، يتيح إعادة تنظيم الحياة النفسية الداخلية، وفهم المَعاني الكامنة خلف القلق والغضب، وتحويل الطاقة الانفعالية إلى قدرة على التكيف والمواجهة. كذلك، فإن الحوارات المُجتمعية الصادقة، التي تسمح بالتعبير عن الألم والمُعاناة، تساهم في ترميم النسيج الاجتماعي وتخفيف الشعور بالعزلة والانفصال.
خطوات عملية للتخفيف من الضغوط اليومية
إلى جانب الاستشارة النفسية المُتخصّصة، هناك خطوات يمكن لأي شخص اتباعها للتخفيف من وطأة الضغوط اليومية، ومنها:
1. المحافظة على الروتين اليومي: حتى في ظل الفوضى، يمكن لجدول ثابت أن يوفّر شعوراً بالأمان والسيطرة.
2. التواصل الاجتماعي: الحديث مع الأصدقاء والعائلة يخفف من العزلة ويمنح الدعم المعنوي.
3. الابتعاد عن الأخبار المُفرطة: المتابعة المفرطة للأحداث السلبية تزيد من القلق والتوتّر.
4. النشاط البدني: مُمارسة الرياضة، حتى لو كانت المشي اليومي، تُساعد في تحسين المزاج وتنشيط الجسم.
5. تقنيات الاسترخاء: مثل التأمل، وتمارين التنفّس العميق، أو اليوغا.
الدور المُجتمعي والسياسات العامة
على الصعيد المُجتمعي، تبقى حملات التوعية وإنشاء مراكز دعم نفسي مجانية أو بأسعار رمزية من أبرز الخطوات التي يمكن أن تُحدث فرقاً ملموساً، خاصّة في المناطق المهمشة أو الأكثر تضرراً من الأزمة. كما أن دمج الصحّة النفسية في السياسات العامة للرعاية الصحية يعدّ ضرورة ملحّة، لا خياراً ثانوياً.
الاستثمار في العقول والنفوس
لقد أظهرت تجارب شعوب أخرى أن التعافي من الأزمات يبدأ من الداخل، أي من الفرد نفسه، لكن ذلك يتطلّب بيئة داعمة وسياسات تحمي الإنسان قبل الاقتصاد.
في لبنان، ربما يكون الاستثمار الأكبر والأهم اليوم هو الاستثمار في سلامة العقول والنفوس، لأن المُجتمعات التي تنهار نفسيًا يصعب أن تنهض مهما توفرت لها الموارد الماديّة.
الأمل والوعي أساس الصمود
في النهاية، يبقى الأمل موجوداً طالما هناك وعي، وتضامن، ورغبة في الدعم المُتبادل. وربما تكون هذه الأزمة فرصة، رغم قسوتها، لإعادة اكتشاف أهميّة الصحّة النفسية كجزء لا يتجزّأ من الصحّة العامّة، ولإرساء ثقافة جديدة ترى في العقل السليم ركيزة للصمود في وجه كل العواصف.
السؤال الكبير: هل نستطيع الصمود؟
في ظلّ كل هذه التحديات، والسقوط الاقتصادي والاجتماعي المُتواصل، هل نستطيع كلبنانيين أن نعيد بناء عقولنا ونفوسنا لننهض من جديد، أم أننا سنسمح للعاصفة أن تطمر أحلامنا قبل أن تترك لنا فرصة للصمود؟