عاجل:

من ماردين "الشهادة" الى ماردين "القداسة" (آراء حرة)

  • ٣٤

آراء حرة – "إيست نيوز"

يوسف دردريان

باحث في شؤون الشرق الاوسط والقوقاز

لم تكن ماردين في موعد مع الموت والقتل والتهجير كما ارادها التركي العثماني , بل جميع المدن الأرمينية التي كانت تخضع لاحتلال السلطنة العثمانية .

فجميع الولايات الأرمينية السبع التي كانت محتلة , شهدت نفس المصير من اضطهاد وقتل وابادة وترحيل . أما ماردين , لم تكتسب فقط وسام الشهادة كما باقي المدن الأرمينية , بل اكتسبت أيضا وسام القداسة .

ففي 15 نيسان 1869 ولد شكر الله مالويان في ماردين أي القديس الشهيد المطران اغناطيوس مالويان , وفي العام نفسه في 20 من نيسان نال سر العماد والتثبيت . من عام 1883 الى 1888 تلميذا في دير سيدة بزمار . سيم كاهنا باسم اغناطيوس في 6 اب 1896 ( يوم عيد الرب ) , فمرشدا روحيا في دير سيدة بزمار الى خادم في رعايا مصر بين 1898 و 1904 في الاسكندرية والقاهرة . أمين سر بطريركي في القسطنطينية في عام 1904 – 1905 , ومن ثم عاد الى ماردين سنة 1910 . في 22 تشرين الأول سيم اسقفا بوضع يد البطريرك بولس بطرس الثالث عشر طرزيان فأصبح رئيس أساقفة ماردين .

انتقل الأسقف الشهيد الى ماردين نهاية عام 1912 , وفي اذار 1913 التقلى الأسقف الشهيد الحبر الأعظم بيوس العاشر في روما حيث كان يتلقى العلاج .

كانت ماردين تلك المدينة الجميلة التي تتربع على جبل , وكان الشعراء يتغنون بجمالها الطبيعي . كانت تمتاز أيضا بتنوع كنائسها ومساجدها ومدارسها , وزراعتها وجمال طبيعتها حيث أعطاها هذا الموقع تميزا خاصا بها . وكان الماردينيون يعيشون حياة عزيزة وكريمة وبسلام في ما بينهم , وكانت حركة المطران مالويان بالحياة لجهة بناء المدارس والدعوة الى السلام والحب فيما بين ابناء رعيته .

الأول من اب 1914 الحرب العالمية الأولى التي قلبت كل هذا الواقع رأسا على عقب , حيث كان مالويان يعمل للتخفيف عن المظلومين والفقراء .

تقلد مالويان في 20 نيسان 1915 أي قبل 4 ايام من الابادة الأرمنية الكبرى الذي ذهب ضحيتها اكثر من مليون ونصف المليون شهيد أرمني , وسلخوا من أرضهم , وساما بفرمان سلطاني .

1915 , القرار والتنفيذ اتخذا . قامت السلطنة العثمانية المجرمة بابادة الشعب الأرمني المتواجد على أرضه في كليكيا , فقصص ماردين مشابهة لقصص باقي الولايات الأرمينية من فان الى ارزروم الى خاربيرت وقبلهم أضنة .

فالوسام الذي منح للمطران مالويان , لم يكن كافيا’ وسيرة حياته وعمله للصالح العام في الدولة العثمانية من قدوم الوحوش اليه في 30 نيسان 1915 أي بعد 10أيام فقط على منحه الوسام من السلطان التركي . جائوا اليه بحجة تفتفيش الكنيسة ومصادرة وثائقه ومحفوظاته بتهم باطلة كاذبة , حيث كان المطران مالويان يجابههم بكل ايمان ويضحض أكاذيبهم وافترائاتهم .

فالاصرار العثماني المجرم في هذا الوقت وتعطشه للقتل والدماء جوبه بالشهيد القديس مالويان الذي تسلح بايمان لايتزعزع ينقل الجبال من مكانها , فقد دفعه ايمانه وحرصه على رعيته أن يتقبل الشهادة بفخر وفرح عظيم , لأن العرس السماوي الذي كان بانتظاره مع أبناء رعيته وجميع الشهداء الأرمن كان أسمى من كل مذابح الوحوش البشرية العثمانية .

تهاوت كل ادعاءات وافتراءات العثمانيين المشكوكة بالشر والحقد , ان لجهة حماية الثوار أو تخزين السلاح أمام صلابة الحقيقة وبطولة القديس بالتعبير الصادق حيث قال لهم : فتشوا ما شئتم من كنائس و أديرة وبيوت رعيتي , واذا وجدتم شيئا افعلوا ما شئتم . لكن كل ذلك لم يردع للحقيقة الصارخة والخطرة الجاري تنفيذها , لتصفية وسلخ الأرمن من أرضهم واحتلالها الى يومنا هذا .

وصل الصلف بالمحتل المجرم أن يطلب من مالويان أن ينكر دينه وهذا ما لم يفعله لاخر لحظة وكلمة ونفس في حياته . والعبرة لمن اعتبر في قصة حياة المطران الشهيد القديس مالويان , ان العيش قي ظل وتحت كنف الاحتلال هو ذل للنفس الانسانية , فثقافة الحياة عند المسيحي لا تعني العمل والأكل والنوم , بل هي ثقافة نضال ومقاومة للظلم والجور في أي مكان وزمان .

ان ربنا يسوع المسيح خير دليل على ذلك , فاختياره للمحبة والتسامح ومساعدة الفقراء وشفاء المرضى . الامر الذي لم يمنعه من تحمل خطايانا وحمل صليبه وسار على درب الجلجلة وما همه أن يعلق على خشبة , ليقوم ويقهر الموت في اليوم الثالث . هذه هي ثقافة المطران مالويان القديس الشهيد , هذه هي ثقافة الحياة أن تحيا بكرامتك لا أن تموت وأنت حي .

نعم هذا الايمان نحتاجه اليوم وكل يوم , ولقد أنعم علينا الرب بشهادة وتقديس المطران اغناطيوس مالويان لكي نعود الى جذورنا المسيحية الصافية النقية , لنكون سندا لكل مظلوم ومقهور وفقير ومضطهد .

كم هو جميل هذا المشهد, في يوم عيد القلب الأقدس , بعدما بارك وكسر الخبز وناول ال417 ماردينيا الذين كانوا يؤلفون قافلة مالويان , حيث كان الرب يسوع بانتظارهم بالملكوت السماوي .لم يخافوا لم يجعزوا بل كانوا مملوئين ايمانا وثباتا وفرحا عظيما لا تقوى عليه أبوا ب الجحيم والشياطين .

هنيئا للشهداء القديسين , هنيئا للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية , هنيئا للأرمن ولكل المسيحيين وللعالم بتقديس المطران الشهيد اغناطيوس مالويان في 19 تشرين الأول 2025 .

ماردين ستفرح في هذا اليوم , والشهداء ستغمرهم الغبطة , وللذين انكروا وينكروا ما فعلوه الى اليوم نقول لهم : ها هي ماردين الأرمينية تتقدس بدماء ابنائها واسقفها الذي أعاد وذكر هذا العالم , أن هناك أرض محتلة ارتكبت بها ابادة , لكن عدالة السماء أنصفتها ووضعتها بمرتبة القداسة . ففي 19 تشرين الأول 2025 سترفع صورة القديس المطران الشهيد اغناطيوس مالويان في باحة القديس بطرس في روما الفاتيكان فترفع معها القضية الأرمنية التي لا تموت بمرور الزمن , فيا له من فرح عظيم بالرب يسوع المسيح , ويا له من خزي وعار على من ارتكب وانكر الى اليوم ابادة الشعب الأرمني .

فها هي صورة قديس تتكلم وتنظر في عيون جميع العالم وتقول لهم : من ماردين مباركين باسم الرب يسوع المسيح .

شكرا ايها الاخ والاب والاسقف الشهيد اغناطيوس مالويان .

يوسف دردريان

باحث في شؤون الشرق الاوسط والقوقاز


المنشورات ذات الصلة